مقالات في اللسانيات

صناعة المعاجم وعلم اللغة

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

من الضروري قبل البدء الكشف عن مفهوم صناعة المعجم والفرق بينها وبين علم المفردات، وكذلك ما المقصود بعلم اللغة التركيبي ( البنيوي ) أو المدرسة البنيوية. ففي مصطلحات علم اللغة الحديث هناك فرق بين علم المفردات، والصناعة المعجمية، فالمصطلح الأول يشير إلى دراسة المفردات ومعانيها في لغة واحدها أو عدد من اللغات، ويهتم علم المفردات في الأساس باشتقاق الألفاظ وأبنيتها ودلالاتها المعنوية والإعرابية والتعابير الاصطلاحية والمترادفات، وتعدد المعاني، أما الصناعة المعجمية فتشتمل على خطوات أساسية خمس هي: جمع المعلومات والحقائق، واختيار المداخل، وترتيبها طبقا لنظام معين، وكتابة المواد، ثم نشر النتاج النهائي، وهو المعجم أو القاموس، لذا فمن الواضح أن الصناعة المعجمية تعتمد على علم المفردات ولكنهما ليسا شيئا واحدا.
في حين كانت معظم الدراسات اللغوية في القرن التاسع عشر تتبنى اتجاها تاريخيا، حولت المدرسة اللغوية البنيوية أو التركيبية اهتمامها إلى الدراسة الوصفية. ويُعزى ظهور هذه المدرسة إلى العالم السويسري دي سوسور. وسُميت المدرسة بالبنيوية أو التركيبية لأن دي سوسور استطاع أن يوضح لأول مرة الأهمية الكبرى للبنية أو التركيب داخل اللغة. وأوضح أن اللغة تتكون من وحدات صغيرة هي الأصوات تتجمع في تركيب معين لتكوّن الكلمات التي تنتظم في جمل مفهومة، ومن أبرز أعلام هذه المدرسة اللغوية بلومفيلد، وقد انشغل معظم لغويو هذه المدرسة في الدراسات الصوتية والصرفية، ولم يتوغلوا في دراسة النحو أو يتناولوا المعنى في أبحاثهم.
علم اللغة وصناعة المعجم:
قامت المعجمات لأغراض مختلفة ولم تكن تطبيقا لنظرية لغوية. ويختلف الدافع الرئيس لظهور المعجمات من مدنيَّة لأخرى. فكل مدنية تشجع نوع المعجمات الذي يتلاءم وحاجاتها التي تنفرد بها دون غيرها. لقد وُجِدَت أقدم المعجمات المعروفة في وادي الرافدين لأسباب عملية، فقد واجه الآشوريون الذين قدموا إلى بابل قبل حوالي ثلاثة آلاف عام صعوبة في فهم الرموز السومرية، ورأى التلاميذ الآشوريون أن من المفيد إعداد لوائح تحتوي على الكلمات السومرية وما يقابلها بالآشورية. وانبعثت الصناعة المعجمية العربية في القرن السابع الميلادي لأسباب دينية، وهي شرح غريب القرآن والحديث، وشجع الحماس القومي على ظهور الصناعة المعجمية الأمريكية بسبب استيائهم من الجهل الذي تعانيه المعجمات البريطانية حول المؤسسات الأمريكية.
وأدى هذا الاتجاه في صناعة المعجمات إلى خلق فجوة بين النظريات اللغوية التي ظهرت حديثاً والتطبيقات المعجمية التي تعتمد على تقاليد قديمة العهد. وعلى الرغم من أن علماء اللغة المحدثين أنجزوا الكثير في مضمار دراسة اللغة بصورة موضوعية، فإن المعجميين لم يستفيدوا كثيرا من النتائج التي توصل إليها هؤلاء العلماء، ولم يأخذوا بها في معجماتهم، فحتى سنة 1963 م نجد ماركورت Marckwardt يشتكي من قلة تطبيق المبادئ اللغوية على المعجم الإنكليزي بقوله:” لا يظهر أثر لمبادئ المدرسة البنيوية التركيبية في هذا المعجم بأي شكل مطّرد، فالكلمات تصنّف بصورة تقليدية إلى أسماء، ونعوت، وأفعال، وهلمّ جرّا. وليست هنالك محاولات لاتباع مخطط يقوم على الهيئة أو الوظيفة في تصنيف المفردات . إنه معجم كلمات وليس معجم مورفيمات[1]، وأرى أنه يصعب العثور على مجرد تلميح للاتجاه البنيوي التركيبي في معالجة التعاريف” .
ولاحظ لغوي آخر يُدعى فاين رايش Weinreich أن معجم وبستر الدولي الثالث Webster’s Third New International Dictionary الذي يعد من أرفع المعجمات الإنكليزية، يعوزه أساس نظري قويم، فقال:” إنه لمن المربك حقاً أن جبلا من التطبيقات المعجمية كهذا القاموس الشامل لا يتمخض إلا عن حفنة تراب من النظرية اللفظية”.
ومن جهة أخرى يزعم المعجميون أن الصناعة المعجمية ليست علما بل هي فن لا يمكن أن يتقيد بالطرائق الموضوعية التي يسير عليها علم اللغة الحديث، وعلى حدِّ تعبير المعجمي الأمريكي كوف Gove :” لم تصبح الصناعة المعجمية علما بعد، وربما لن تصبح علما أبدا، فهي فنٌ معقد دقيق، وبالغ الصعوبة أحيانا، يتطلب تحليلا ذاتيا، وقراراتٍ اعتباطيةً، واستنتاجات حدسية”
ويمكن تلخيص العوامل الرئيسة التي أسهمت في توسيع الفجوة بين النظريات اللغوية الحديثة والتطبيقات المعجمية السائدة بما يأتي:
كانت المعجمات تنمو نموا مستقلا، يقودها الاقتناع والتقليد، وكانت في غالب الأحيان مشروعات تجارية أكثر منها منجزات أكاديمية. ولم يبذل المعجميون جهودا مخلصة للإلمام بالنظريات اللغوية وتطبيقاتها في معجماتهم. ففي عام 1934م لاحظ مانسون Mansion أن المعجمات الثنائية اللغة ليست علمية في معالجتها للمفردات”. وعلى الرغم من أنه مضى على ملاحظات مانسون حوالي ثمانين عاما فإنها ما زالت صحيحة إلى حدّ ما. فالمعجميون التجاريون لايوجهون اهتماما بالغا إلى التطورات الحديثة في علم اللغة، لأن ذلك يكلف ثمنا باهظا ويستغرق وقتا طويلا، إضافة إلى أنهم قد يجازفون بجهودهم. فقد لاحظ ريد Read وجود تناقض بين طرائق البحث اللغوي والتوقعات التقليدية لجماهير القراء، وقال:” هنالك جذب وشد بين ما يتمنى أن يفعله المعجمي على أسس علمية، وما هو مضطر لعمله فعلا بسبب طلبات الجمهور التقليدية”
لقد أهمل علماء اللغة الأمريكيون المعجم في القرن العشرين ووجهوا اهتمامهم وجهات أخرى. فالمدرسة البنيوية التركيبية[2] التي هيمنت على المسرح اللغوي في الولايات المتحدة الأمريكية حتى بداية العقد الأخير، كانت تنظر إلى المعجم باحتقار، ولهذا فإن زعماء العلم الجديد أهملوا المعجم مفضلين البحث في جوانب اللغة الأكثر نظامية واطّرادا، وعلى لسان كليسن Gleason :” من المؤكد أننا نحن اللغويين الوصفيين- نميل إلى احتقار المفردات. ونكاد نعتقد أنها أقل عناصر اللغة أهمية ( ناهيك عن أولئك الذين يساورهم الشك فيما إذا كانت المفردات جزءا من اللغة على الإطلاق)”. ويرجع سبب احتقار المدرسة التركيبية للمعجم بسبب اهتمامه بمعاني المفردات التي لا يمكن أن تجمعها قاعدة واحدة على غرار القواعد النحوية.
إنّ المشكلة السرمدية التي تواجه أصحاب النظريات هي إمكانية تطبيق نظرياتهم، فالبحث اللغوي المعاصر مثقل بالنظريات، ويعترف المعجمي أردنك Urdang بأهمية النظريات اللغوية للمعجميين، ولكنه يُذكّر اللغويين بأنه يجب أن تتوافر لنظرياتهم إمكانية التطبيق، إذ يقول:” الصناعة المعجمية في الواقع فرع من فروع علم اللغة التطبيقي، وعلى الرغم من أننا نرحب بالنظريين الجدد بوصفهم إضافة مرغوبا فيها، فإننا يجب أن نذكرهم بأن نظرياتهم ينبغي أن تكون قالبة للتفسير من الناحية العملية”.
وحتى إذا رغب أحد المعجميين في التقيد بالمبادئ اللغوية في عمله، فإنه سيصطدم بصعوبتين هما:
أ- التغير السريع في المسرح اللغوي، ففي العقدين السادس والسابع من القرن العشرين شهدت الولايات المتحدة الأمريكية انبثاق عدد من النظريات اللغوية كالنظرية التوليدية والنظرية البنيوية التركيبية، وقد يستغرق تصنيف المعجم القيّم عشر سنوات أو أكثر ويجد المعجمي في نهاية المطاف أن النظرية التي بنى عليها عمله قد أمست قديمة ومهملة قبل أن ينشر معجمه.
ب- وحتى ضمن المدرسة الفكرية الواحدة يختلف اللغويون فيما بينهم حول كيفية معالجة المشكلة ذاتها. ويعكس هذا الاختلاف في طرائق البحث المتبعة، وفي مثل هذه الحالة يجد المعجمي نفسه في وضع معقد، ولا يرى مهربا من اتباع التقليد، والتمسك بما يلائمه؛ فذلك خير له وآمن.
اهتمام اللغويين بصناعة المعجم:
إن إهمال اللغويين للصناعة المعجمية آخذ بالزوال؛ فخلال الأعوام الخمسين الماضية ارتفعت الأصوات مطالبة بدمج علم الدلالة في النظرية اللغوية، وهذا ما أعطى الصناعة المعجمية زخماً جديدا، وظهر الاهتمام بها في سلسلة من الأحداث نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:
في عام 1960م عَقَدت جماعة من اللغويين والمعجميين مؤتمرا لهم في جامعة أنديانا لمناقشة المشكلات المختلفة المتعلقة بالصناعة المعجمية.
في عام 1963 م نشر كاتز و فودور Katz & Fodor نظريتهما في علم الدلالة وطالبا بأن تؤلف المعجمات على هدي مبادئ نظريتهما. ( حاولا إدخال المعنى في إطار النحو التوليدي)
لم تلق الصناعة المعجمية اهتماما من قبل الأوساط اللغوية فحسب، بل من المؤسسات التربوية أيضا. ففي سنة 1966م قام أحد مدرسي اللغة الإنكليزية بالإشراف على مشروع أسماه “معجميون في أسبوع” تعلم فيه طلاب السنة الثانية الإعدادية المهارات المعقدة الخاصة بصناعة المعجمات، وذلك عن طريق تصنيفهم “معجم المفردات العامية”
لم يكتفِ اللغويون بإلقاء الدروس عن صناعة المعجم، وكتابة المقالات، ونقد المعجمات، بل تحملوا أحيانا مسؤولية تحرير المعجمات ليضربوا مثلا عمليّا للمعجميين غير اللغويين.
في عام 1967م اقترح ليمان Lehmann تأسيس بيت معجمي كبير بمثابة خطوة أولى نحو إنتاج معجم حديث ضخم، وفي سنة 1968م دعا جيمس سلد إلى تشكيل “اللجنة المعجمية” في الجمعية اللغوية الحديثة، تهدف إلى إنتاج معجمات قيّمة على أسس لغوية.
وما حلَّ عام 1969م حتى أصبح من الواضح أن الصناعة المعجمية غدت تحظى باهتمام اللغويين، لدرجة أن رئيس الجمعية اللغوية الأمريكية آنذاك، وقف خطاب الرئاسة على بحث بعض مشكلات الصناعة المعجمية محاولا الخروج بحلول منهجية ثابتة.
في سنة 1970م عَقَدتْ اللجنة المعجمية التابعة للجمعية اللغوية الحديثة، والجمعية اللغوية الأمريكية مؤتمرا حول الصناعة المعجمية في ولاية أوهايو نوقشت فيه مشكلات هذه الصناعة واقتَرحت لها حلولا مبنية على أسس البحث العلمي.
عقد في نيويورك بين الخامس والسابع من شهر حزيران 1972م مؤتمر دولي حول صناعة المعجمات الإنكليزية تبنته أكاديمية العلوم النيويوركية، والجمعية اللغوية الحديثة ومركز العلوم التطبيقية وحظره أشهر علماء اللغة.
إن كل هذا لدليل على أن الصناعة المعجمية تحظى اليوم باهتمام اللغويين الذين سيكون تأثيرهم عليها ملموسا في المستقبل القريب.
-في إطار اهتمام اللغويين العرب بصناعة المعجم عُقِدَ في بيروت يوم الثلاثاء 21 نيسان/ أبريل 2010م المؤتمر العلميّ اللغويّ وموضوعه: المعجمية وصناعة المعاجم في لبنان. وقد حضر المؤتمر لغويون ومترجمون ومثقفون وطلاب من لبنان والأردن وتونس، وسوريا ومصر والمغرب وفرنسا. وتبين من بحوث المؤتمر ومما تلاها من نقاش أنَّ صناعة المعاجم العربية سواء داخل الوطن العربي أو خارجه، تتطور باستمرار، وقد حققت منجزات مهمة بفضل كبار المعجميين واللغويين، وذلك على الرغم مما أصبح يظهر أحياناً من معاجم لغوية ومتخصصة يغلب على إعدادها التسرّعُ والطابَعُ التجاري أكثر من التأني المنهجي والتجويد العلمي.
-عقدت كلية الآداب والعلوم الإنسانية برحاب جامعة آل البيت في الأردن مؤتمرها الدولي الثاني في اللغويات في موضوع : المعجمية العربية: الإنجازات والآفاق، وذلك أيام 24، 26 ذو القعدة 1431 هـ، الموافق ل 1، 3 نوفمبر 2010م وقد انطلقت فعاليات الجلسة الأخيرة، تحت عنوان “المعجمية العربية في ضوء اللسانيات المعاصرة”.
خاتمة:
حتى بداية الستينيات كانت صناعة المعجم تتصف بالطابع التجريبي الذي لا يعتمد على منهجية علمية حقيقية وإنما على الخبرة العلمية التي اكتسبها واضعو المعاجم في القرون الماضية، ومع تطور اللسانيات الحديثة عامة وعلم المفردات خاصة بدأت تظهر في المعجمات اللغوية العامة آثار هذا التطور نحو إرساء أسس علمية موضوعية تستند إلى نتائج البحوث التي أقيمت في مختلف ميادين علم اللسان الحديث.
[1] المورفيم : أصغر وحدة لفظية ذات دلالة
[2] يعد بلومفيلد أحد مؤسسي المدرسة اللغوية البنيوية التركيبية، والذي يعد كتابة اللغة الذي نُشر عام 1933 دستورا لهذه المدرسة

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى