مقالات في اللسانيات

أثر الحذف في التماسك النصي

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

إنَّ دور القارئ في إدراك مواطن الحذف، وكيفية قيامه بملء الفراغات- فراغات الحذف- يسهم في إكمال النصّ فهو إلى حد ما المبدع المشارك، لا للنص نفسه، بل لمعناه وأهمِّيته وقيمته. فالحذف يُعدُّ وسيلة تسهم في خلق ترابط نصي، إذ يشرع الحذف في تكوين حوار طرفاه النصّ والمتلقي، وهو حوار يتجلى فيه تواصل المتلقي مع النصّ.
إن الحذف من أكثر عناصر التماسك النّصّي شيوعاً، فالبنيات السطحيّة في النصوص غير مكتملة غالباً بعكس ما قد يبدو لمستعمل اللّغة العادي، ففي قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ﴾ لا مفرّ من فهم  ” شهد الملائكة وشهد أولو العلم ” بدليل ما في آخر الآية من قوله تعالى: ﴿ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، ولولا هذا الفهم لجعلنا الملائكة وأولي العلم آلهة مع الله سبحانه وتعالى.”([1])
وذكر هاليداي أنّ الحذف “علاقة داخل النّصّ وفي معظم الأمثلة يوجد العنصر المفترض في النّصّ السابق، وهذا يعني أنّ الحذف عادة علاقة قبليّة.”
وقد ذكر كريستال أنّ الحذف هو حذف جزء من الجملة الثانية، يدلّ عليها دليل في الجملة الأولى، مثال ذلك: أين رأيت السّيّارة ؟ في الشارع، فالحذف من الجملة الثانية “رأيتها”
والحذف كعلاقة اتساق لا يختلف عن الاستبدال إلا بكون الأوّل “استبدال بالصفر” أي أنّ علاقة الاستبدال تترك أثراً، وأثرها هو وجود أحد عناصر الاستبدال، بينما علاقة الحذف لا تخلّف أثراً، ولهذا فإنّ المستبدل يبقى مؤشّراً يسترشد به القارئ للبحث عن العنصر المفترض، مما يمكّنه من ملء الفراغ الذي يخلقه الاستبدال، بينما الأمر على خلاف هذا في الحذف، إذ لا يحلّ محلّ المحذوف أيّ شيء، ومن ثمّ نجد في الجملة الثانية فراغاً بنيويّاً يهتدي القارئ إلى ملئه اعتماداً على ما ورد في الجملة الأولى أو النّصّ السابق.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً﴾  المحذوف ” أنزل ربُّنا ” وفي ذلك مرجعيّة قبليّة بين مكان العنصرين المحذوفين من الجملة الثانية ” أنزل ربُّنا ” وبين المذكور في الجملة الأولى .
إنَّ دور القارئ في إدراك مواطن الحذف، وكيفية قيامه بملء الفراغات، يسهم في إكمال النصّ فهو إلى حد ما المبدع المشارك، لا للنص نفسه، بل لمعناه وأهمِّيته وقيمته. وربما أمدنا رأي ابن رشيق بما يكشف لنا عن تأثير الحذف على المتلقي؛ “إنَّ نَفْس السامع تَتِّسع في الظن والحساب وكل معلوم فهو هين لكونه محصوراً”.
والحذف يُعدُّ وسيلة تسهم في خلق ترابط نصي، إذ يشرع الحذف في تكوين حوار طرفاه النصّ والمتلقي، وهو حوار يتجلى فيه تواصل المتلقي مع النصّ.
وإذا تأملنا الصلة بين النصّ والمتلقي، في إطار الكشف عن مواقع الحذف، فإننا سنجد أن ثمة تعويلاً لازماً على “الدليل” أو الأثر الذي يدل القارئ أو السامع على مكان الحذف ويهديه إلى تقدير المحذوف.
وإعمال الفكر في تقدير المحذوف وبيان مرجعيّته يؤدّي إلى التماسك النّصّي الذي يتحقّق من خلال ثلاثة أمور :
التكرار، وذلك بعد تقدير المحذوف.
المرجعيّة بين العنصر المحذوف وبين العنصر المذكور، أي بين الجملتين، وهي إحالة قبليّة كثيراً، وإحالة بعديّة قليلاً ، ومثالُها قول قيس بن الخطيم :
نحن بما عندنا وأنت بما             عندك راضٍ والرأي مختلف
أراد نحن بما عندنا ” راضون ” ، وأنت بما عندك راضٍ ”
فالتماسك النّصّي تحقّق بين هذين الشطرين بعد تقدير المحذوف في الشطر الأوّل من لفظ المذكور في الشطر الثاني، فهي إذاً مرجعيّة بعديّة.
وجود دليل أو قرينة تشير للعنصر المحذوف، وهي التي تنشأ مع المرجعيّة الداخليّة، ومن ثمّ يتحقّق التماسك النّصّي داخل الجمل.
[1] – النّصّ والخطاب والإجراء ، مقدّمة د. تمّام حسان : 34.

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى