مقالات في اللسانيات

حدود الجملة والنص والخطاب

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

لقد حظيت اللغة بنصيب وافر من الدراسة منذ القديم؛ ذلك لكونها تشكّل في جانبيها المكتوب والمنطوق وسيلة الاتصال الأولى لدى الإنسان ” ومن أحدث الأطروحات التي عنيت بتوصيف اللغة كوسيلة تواصل واتصال لساني؛ الأطروحة النصية في تحليلاتها النقدية المختلفة.[i] ومن هنا يمكن أن نعدّ لسانيات النص حلقة من حلقات التطور الموضوعي والمنهجي في اللسانيات الحديثة، وفي هذا الإطار فإن نشأة اللسانيات النصية مدينة للنحو التوليدي الذي أسهم بشكل مباشر في الانتقال من بنية الجملة إلى بحث منظم في العلاقات بين الجمل في بنية أكبر من الجملة يمثلها النص، فالنص إنتاج مترابط ومتّسق ومنسجم، وليس مجرد رصف اعتباطي للكلمات والجمل، ولعل من المصطلحات المثيرة للجدل في الدرس اللساني القديم والحديث مصطلح ” الجملة ” فتعددت وجهات نظر الدارسين لها من حيث هي تكوين لغوي دالّ، كما استعصى مصطلح النص على التعريف قديماً وحديثاً، حيث تكاثفت الأسئلة في حقيقته، وأقسامه، وأغراضه، وتمايزه عن غيره من أشكال التواصل الأخرى، وبتداخل هذه المعاني والتعريفات وتشابكها كان من الواجب أن ننطلق من عمق التراث العربي للبحث عن حدود هذه الأنساق اللغوية، بخاصة وأنَّ هذه المصطلحات (الجملة والنص) سجّلت حضوراً مهماً في الذخيرة اللغوية في التراث العربي.
المدارس النحوية:
كان أبو الأسود الدؤلي أول من ضبط قواعد النحو، فوضع باب الفاعل، المفعول به، المضاف و حروف النصب والرفع و الجر و الجزم[ii]، ومنذ أواسط القرن الثاني للهجرة، سار الدرس النحوي في اتجاهين مختلفين: كان سيبويه و تلاميذه يمثلون اتجاها و كان الكسائي و تلاميذه يمثلون اتجاها آخر. كان الاتجاه الأول هو اتجاه البصريين و الاتجاه الثاني هو اتجاه الكوفيين، وقد كان النزاع بين الفريقين شديدا وفولّد في قواعد النحو العربي تشعبا في الآراء و تعسفا في التحليل. ثم جاءت مدرسة أخرى حاولت إن توفق بين الآراء المتضاربة باسم مدرسة بغداد. وفيما يلي سمات كل مدرسة وأوجه الاختلاف بينها:
أولاً: مدرسة البصرة:
كانت البصرة مولد النحو ومهده، والخليل بن أحمد الفراهيدي هو أول من نهج مسالك جديدة في علم اللغة العربية وهو تلميذ عمرو بن العلاء؛ لذا فهو المؤسس الحقيقي لعلم النحو العربي الذي وضعه سيبويه في كتابه بعد أن تلقاه عنه وتعلمه عليه، ثم نحا مذهب سيبويه آخرون أمثال الأصمعي والأخفش والمبرد.
إن البصريين كانوا أكثر حرية وأقوى عقلا وطريقتهم أكثر تنظيما، وخطتهم هي الاعتماد على الشواهد الموثوق بها، الكثيرة الدوران على ألسنة العرب التي تصلح للثقة فيها أن تكون قاعدة تتبع، ولن يكون ذلك إلا إذا وردت في كتاب الله الكريم أو نطق بها العرب الخلّص الذين اعتُرف لهم بالفصاحة لبعدهم عن مظنة الخطأ، كالاتصال بالأعاجم سواء بالرحلة أو الجوار، أو لرسوخ قدمهم في اللغة وتبصرهم بها، واطلاعهم عليها ككبار العلماء والأدباء، هؤلاء الذين يمكن أن توضع أقوالهم موضع الاعتبار؛ لذلك لم يكن بدعاً أن ترى السيوطي يقول: اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا؛ لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع و لا يقيسون على الشاذ[iii]، في الحقيقة نحاة البصرة تأثروا بالبيئة البصرية ونهج المعتزلة وتأثروا بهم في الاعتداد بالعقل و طرح كل ما يتعارض معه، فأهملوا الشواذ في اللغة، لهذا سمى نحاة البصرة أهل المنطق[iv] ثانياً: مدرسة الكوفة:
بقيت أوائل النحو و الدراسات العربية غامضة في الكوفة، فلا نعلم عن ذلك أكثر من روايات و أخبار متفرقة، و لعل نشأة هذه الدراسات قد تأخرت في الكوفة عن البصرة بعد أن أخذ الكوفيون عن البصريين و تأثروا بهم[v]، ويؤسفنا كذلك نقص ما نعلمه عن نمو هذه المدرسة لقلة ما بقى لنا من مصنفات الكوفيين على رأى الدكتور أحمد أمين: أنشأ الرؤاسى مدرسة الكوفة في النحو ووضع فيه كتابا لم يصل إلينا وبدأ الخلاف هادئاً بين أبي جعفر الرؤاسي في الكوفة والخليل في البصرة، ثم اشتد بين الكسائي في الكوفة وسيبويه في البصرة[vi]، أما الدكتور مهدي المخزومي فيقول: فإذا أردنا أن نؤرخ لمدرسة الكوفة، فينبغي أن نؤرخ للكسائي، لأنه هو النحوي الأول الذي رسم للكوفيين رسوما يعملون عليها[vii] للكوفيين – بوجه خاص – عناية فائقة بالشواهد و النوادر، و كان من بين أصحاب الكسائي و الفراء و ثعلب حفظة لهذه الشواهد. كعلي بن المبارك الأحمر صاحب الكسائي الذي قيل: إنه كان يحفظ أربعين ألف شاهد في النحو[viii] إن الكوفيين قبلوا كل ما جاء عن العرب و اعتدوا به و جعلوه أصلا من أصولهم التي يرجعون إليها و يقيسون عليها، و يستوثقون منها، حتى تلقفوا الشواهد النادرة و قبلوا الروايات الشاذة[ix] ثالثاً: مدرسة بغداد:
ظل الحال كذلك حتى تأسست مدنية بغداد وأخذ الخلفاء يشجعون العلماء ويدعونهم لتربية أولادهم، فالكسائي رئيس مدرسة الكوفة ذو الحظوة العظمى عند الرشيد ومعلم الأمين والمأمون والفراء تلميذ الكسائي كان معلم أولاد المأمون وابن السكيت تلميذ الفراء كان معلم أولاد المتوكل، مع هذا فقد كان التقاء الكوفيين والبصريين في بغداد سبباً في عرض المذهبين ونقدهما والانتخاب منهما[x] إذن كلتا المدرستين بعد انتقالهما من موطنيهما الأصليين إلى عاصمة الخلافة في بغداد في القرن الثالث، قد انقطعتا عن الوجود و امتزجت إحداهما بالأخرى، رويدا وسميت المدرسة الجديدة التي قامت على أنقاض المدرستين القديمتين، المدرسة البغدادية أو المدرسة المزدوجة، إذ كان عملها طبقا للرواية منحصرا في التوفيق بين كلا المنهجين[xi] وقد اتّسمت مدرسة بغداد بالتحرر من تحكيم العقل في الدرس اللغوي، فأصبحت له قيمة كبيرة ردت إلى الدرس النحوي اعتباره، فرفضت التعليلات التي لا صلة لها به، وغلبّت النقل على القياس، ثم حكّمتْ الاعتبارات اللغوية في أصول الدرس و قواعده الموضوعة.
1- مفهوم الجملة:
مفهوم الجملة اصطلاحا نستقيه مما استشهد سيبويه (ت10هـ) في كتابه بجمل نحوية تامة في مواطن عدة مراعيا فيها المعنى ومعبرا عنها بلفظ الكلام، دون استخدام مصطلح الجملة فسيبويه لم يتحدث عن الجملة بمعناها الاصطلاحي وإنما تحدث عنها بمدلولها من خلال الإشارة إلى عناصر الجملة كالمسند والمسند إليه، ويفهم منه أن الجملة ما تكونت من المسند والمسند إليه كالمبتدأ والخبر أو الفعل وفاعله، ولم يستخدم سيبويه مصطلح الجملة وإنما استعمل مصطلح الكلام و أراد به الجملة. وذلك حين تحدث عن الجمل التامة فيقولهذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة، فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب،ومستقيم قبيح،وما هو محال كذب……). ومثله الفراء(ت207هـ) فقد أطلق مصطلح الكلام وأراد به الجملة فيقول وقد وقع الفعل في أول الكلام على اسمه)، وهو يتحدث عن الجملة
ويعد المبرد (ت285هـ) هو أول من استعمل مصطلح “الجملة” من الرعيل الأول وذلك حين تعرض للحديث عن الفاعل إذ يقولهذا باب الفاعل وهو الرفع وذلك في قولك: قام عبد الله وجلس زيد، وإنما كان الفاعل رفعا لأنه هو والفعل جملة يستحسن عليهما السكوت وتجب بها الفائدة للمخاطب فالفاعل والفعل منزلة الإبتداء والخبر إذ قلت: قام زيد، فهو بمنزلة قولك القائم زيد)
ويعرف ابن جني (ت392هـ) الجملة أو الكلام بقوله: (أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه وهو الذي يسميه النحويون الجمل، نحو: “زيد أخوك” و”قام محمد” فكل لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناها فهو الكلام)
ولم يفرق الزمخشري بين مصطلحي الجملة والكلام وجعلهما شيئا واحدا إذ يقول والكلام هو مركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى، وذلك لا يتأتى إلا في اسمين كقولك:”زيد أخوك” و”بشر صاحبك” أو في فعل واسم نحو قولك:”ضرب زيد” و”انطلق بكر”، وتسمى جملة
أما ابن هشام فحاول أن يفرق بين مصطلح الكلام والجملة من حيث أن الكلام يمكن السكوت عليه، أما الجملة فيعني بها عناصر الإسناد كالفعل مع فاعله، والمبتدأ وخبره فيقول والجملة عبارة عن الفعل وفاعله كـ “قام زيد” والمبتدأ وخبره كـ”زيد قائم” وما كان بمنزلة أحدهما نحو “ضرب النص”)
ويرى الجرجاني (أن الجملة عبارة عن مركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى سواء أفاد كقولك: “زيد قائم”، أو لم يفدك قولك:”إن يكرمني”، فإنه جملة لا تفيد إلا بعد مجيء جوابه فتكون الجملة أعم من الكلام مطلقا)
ويختلف مفهوم الجملة عند علماء اللغة العربية المحدثين بسبب انتمائهم إلى المدارس والمذاهب اللغوية عن طريق الأخذ من القدماء العرب أو التأثر بالنظريات اللغوية الغربية وتبعا لذلك فالقواعد والأحكام اللغوية القديمة لم تبق على حالها، بل تغيرت مع تطور الدراسات اللغوية الحديثة، فتعددت بذلك مفاهيم الجملة باختلاف وجهات النظر، فهناك من اللغويين العرب من يرى أن الجملة قول مركب مفيد دال على معنى دال يحسن السكوت عليه.
يرى الحمزاوي أن الجملة (الكلام المركب المفيد الذي يتم به المعنى) وعند محمد خان هي: (تركيب إسنادي يفيد فائدة يحسن السكوت عليها والغاية منها الاتصال والتفاهم بين أعضاء الجماعة اللغوية، أي شرطها التأليف الذي يحمل دلالته للملتقي ولذلك فهي مجموعة ذات عناصر لغوية إسنادية، وقد أنشئت قصد التفاهم في بيئة لغوية)
أما تمام حسان فيرى أن الجملة هي: (المجموعة الكلامية) وبذلك فهو يرى أن الكلام عبارة عن مجموعة من الجمل لذلك فهو أعم منها .ويضيف بقوله: (أما الذي يتكون من عملية الإسناد فيسمى الجملة وهي ذات علاقات إسنادية مثل علاقة المبتدأ بالخبر، والفعل بفاعله والفعل ونائب فاعله والوصف والمعتمد بفاعله ونائب فاعله). ويعرفها عبد السلام المسدي بقوله: (فالجملة المستقلة هي أكبر وحدة نحوية في الكلام وتتميز بشيئين أولهما أن أجزاؤهما تترابط عضويا وثانيها أنها لا تندرج في بناء نحوي أوسع منها)
وذهب الدكتور إبراهيم أنيس في تعريفة للجملة بقوله: (إن الجملة في أقصر صورها هي أقل قدر من الكلام يفيد السامع معنى مستقل بنفسه، سواء تركب هذا القدر من كلمة واحدة أو أكثر). وهذا التعريف يجيز أن تتركب الجملة من كلمة واحدة، أي أن فكرة الإسناد ليست لازمة لتشكيل جملة صحيحة، أما ميشال زكريا فقد عرف الجملة بقوله: (وحدة كلامية مستقلة يمكن لحظها عبر السكوت الذي يحددها)
وذكر محمد حماسة عبد اللطيف قول براجستر في جعل الإسناد شرطا لازما أساسيا في الجملة فإذا خلا أي تركيب من الإسناد فهو ليس بجملة،وإن أدى إلى معنى يحسن السكوت عليه. وقد انبنى رفضه في أن يكون الإسناد مقوما أساسيا في الجملة ونلمس ذلك ممن خلال المفهوم الذي حدده لها بقوله: (كل كلام تم به معنى يحسن السكوت عليه، هو جملة وإن كان من كلمة واحدة)
وعند محمد إبراهيم عبادة: (ليست الجملة مجرد سلسلة من طبقات تراكمية ولا من متتابعات من المفردات أو الهيئات التركيبية دون علائق ترابطية ترى في عناصرها بل لها علاقة الإسناد وعلاقة التقييد وعلاقة الإيضاح)
أما عباس حسن يقول: (الكلام أو الجملة هو ما تركب من كلمتين أو أكثر، وله معنى مفيد مستقل، فلا بد في الكلام من أمرين معا هما،”التركيب”و”الإفادة المستقلة”)
ولا شك أن مصطلح الجملة من المصطلحات المثيرة للجدل في الدرس اللساني الحديث؛ فقد تعددت وجهات نظر الدارسين لها، فبرز في هذا التعدد ما يقارب ثلاثمائة تعريف، ولعل أشهر التعريفات اللسانية المعتمدة ما قرره بلومفيلد بشأنها فهي شكل لغوي مستقل، لا يدخل عن طريق أي تركيب نحوي في شكل لغوي أكبر منه، وقد عقّب جون لاينز على هذا التعريف فعدّ الجملة الوحدة الكبرى للوصف اللغوي، أما سوسير فلا يقدّم تعريفاً محدداً لها بل يشير إلى كونها نمطاً مهماً من أنماط التضام، كما يذهب دافيد كريستال إلى ضرورة التمييز بين الجملة من حيث هي نمط يقاس عليه، والجملة من حيث هي واقع منتج فعلياً في الكلام[xii]، وقيد ميّز اللسانيون في إطار نحو النص بين نوعين من الجمل، الجملة النصية وجملة النظام.
3- النحو العربي ونحو النص:
لعل من أبرز مآخذ النصيين الغربيين على من سبقهم من المدارس اللسانية كونهم اتخذوا من الجملة الوحدة الكبرى في التحليل اللغوي ، وقد تبعهم المحدثون العرب الذين اهتموا بعلم اللغة النصي ، فردّدوا ما قال أولئك ، متّهمين النحو العربي بأنّه نحوُ جملةٍ ، وأنّه لم ينظُرْ إلى النصوص على أنّها وحدةٌ متماسكةٌ .
هناك صفات يتسم بها نحو الجملة وحده وهي :
1 ـ الاطّراد ، ومعناه أن القاعدة حكَم على اللغة الفصيحة، وعلى رغم الاعتراف بالفصاحة للشذوذ يظل الشاذ شاذاً.
2 ـ المعيارية، وتعني أن القاعدة سابقة على النص وأنها معيار للصواب والخطأ ينبغي أن يراعى عند إرادة القول.
3 ـ الإطلاق، ومعناه أن القاعدة النحوية صادقة على ما قيل من قبل وما سيقال من بعد فهي الحكم الذي يرد إليه الكلام كله .
4 ـ الاقتصار في بحث العلاقات على حدود الجملة الواحدة فلا يتخطاها إلا عند الإضراب أو الاستدراك أو العطف وما يشبه ذلك .
ونحو النص ينأى عن هذه الصفات الأربع كلها . فهو فيما يتعلق بالاطّراد يعترف بالمؤشرات الأسلوبية، وهي تصرفات خاصة يلجأ إليها منشئ النص ليميزه عن غيره أو ليثير بها انتباه المتلقي. وهو أبعد ما يكون عن المعيارية والإطلاق؛ لأنه نحو تطبيقي لا يأتي دوره إلا بعد أن ينشأ النص ويكتمل. وكذلك يتجاوز نحو النص العلاقات داخل حدود الجملة الواحدة إلى أجزاء النص كله أيا كان طوله، محللاً إياها ومتتبعاً لها
وفي مقابل ما سبق هناك صفات تخص نحو النص وحده ولا تعني نحو الجملة في شيء، وهي خمسة من المعايير السبعة للنص: القصد والتناصّ ورعاية الموقف (المقامية) والإعلامية والقبول .
ويتفق الاثنان نحو الجملة ونحو النص في صفتين هما : التضام (السبك) والاتساق (الحبك )
وهذا الاختلاف الواضح بين الاثنين : نحو الجملة ونحو النص، لا يترتب عليه إمكان إغناء أحدهما عن الآخر، بل هما يتكاملان وقواعد نحو الجملة تمثل جزءًا أساسياً غير قليل ينبني عليه نحو النص
وحقيقةُ الأمرِ أنّه ينبغي أن ننظرَ إلى هذا الادّعاء بشيء من التريّث والاستقراء لما جاء من عند النحويين العرب من إشارات ترتبط بهذا الموضوع ، كما فعلوا مع غيرهم من البلاغيين والمفسّرين ، حيث أثبتت البحوث في هذا الميدان أن للبلاغيين والمفسرين العرب دورًا كبيرًا في الوقوف على كثير من قضايا التماسك النصّي
والحقُّ أنّ هذه دعوى تحتاجُ إلى دليل ، لما فيها من مخالفة لبديهيّات التأليف النحوي ، إذ إنّ النحويين بدءًا من سيبويه لم يقعّدوا قاعدة – خلا مسائل التمرين – إلا حشدوا لها من النصوص الأدبية – منظومها ومنثورها – ما يؤكّدها ويعزّزها ، ولم يكتفوا بذلك ، بل أكثروا من التدقيق والتحقيق في معرفة النص الأدبي الذي يرومون التقعيد عليه من حيث قائله وزمانه ومكانه ، وبذا يبدو غريبًا كلّ الغرابة الزعمُ بأنّ النحويين لم يختبروا قواعدهم من خلال النصوص الأدبية .
وإن كان المقصود من تلك الدعوى عدم استشهاد النحويين بنصوص تامّة غير مبتورة، فإنّ ذلك خاضع لطبيعة الاستشهاد نفسه ، إذ يُساق من النص موضع الشاهد لاغير ، ولو أنّهم نقلوا النص كاملًا في كلّ مرة يستشهدون بجزء منه لاختلطت القواعد ، وبذلك يبطل الهدف من وضعهم الكتب ، إذ الهدف منها تعليمُ الطلاب وتحصين ألسنتهم من الوقوع في اللحن .
وبالنظر في كتب النحو نجد أنّ النصّ ومعاييره لم يكن خارج مجال الدرس النحوي العربي ، وإنْ غابت المصطلحات الدّالَّةُ عليه ، ولا أقصد بذلك القول إنّ النحويين العرب والبلاغيين والمفسرين قد أرسوا قواعد الدراسة النصيّة كما هي عليه الآن ، بل كانوا على علمٍ بقضيّة ترابط النصّ واعتباره كلًّا متماسكًا ، يرتبط كلّ جزء منه بالآخر ، وكذا أثر السياق والجانب التداوليّ في النص ، نلحظ ذلك كلَّه ضِمنًا في أعمالهم ، ولم يصرّحوا بذلك إلّا في مواطن قليلة ، ومن ذلك :
قول ابن جنّي ( ت 392 هـ ) : إنّ « الكلام إنّما وُضِع للفائدة ، والفائدةُ لا تُجنى من الكلمة الواحدة ، وإنّما تُجنى من الجُمَلِ ومدارج القول (السياقات) ، فلذلك كانت حالُ الوصلِ عندهم أشرفَ وأقومَ وأعدل من حال الوقف
ولعلّ هذا الفهم والاستنباط يخالف ما ذهب إليه بعضُ المحدثين، حيث يرى أنّ التحليل النحوي لدى النحويين القدامى كان يبدأ « باجتزاء الجمل ، وعزلها تقريبًا عن سياقها في النص أو الخطاب، لكن حقيقة الأمر أنّ النحويين العربَ أَوْلوا السياق الذي ترد فيه الجملة عنايةً كبرى ، ووضحوا ما لا يدع مجالًا للشكّ أهميته في فهم الجمل
وابن هشام ( ت 761 هـ ) يصرّح « بأنّ القرآن كلّه كالسورة الواحدة ، ولهذا يُذكر الشيء في سورة وجوابُهُ في سورة أخرى ، نحو : ﴿ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ الحجر : 6 ، وجوابه : ﴿ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ القلم : 2
أمّا ما جاء به النصيّون من دور المتلقي في إنتاج النصّ وفهمه ، فلم يكن بمنأى عن تفكير النحويين الأوائل ، الذين عُنوا بالمخاطَب، بوصفه أحد أركان النص ، ذلك أنّ العمليات النصيّة التي يجريها المتكلّم إنّما تكون وجيهة إذا أُخِذَ المخاطب في الاعتبار ، وإلّا عُدّت من قبيل الطلاسم اللغوية التي لا يُهتدى إلى معرفتها ، وحديثُ النحويين عن المخاطب يدلُّ على تنزيله المنزلة الأولى في عمليّة الاتصال اللغوي.
ولو أمعنّا النّظرَ في تلك الأمثلة لوجدنا أنّ النحويين قد أصّلوا لقضية ترابط النصّ ، من خلال حديثهم عن النصّ القرآني ، وغيره من النصوص النثرية والشعرية، يتبيّن لنا مما سبق أنّ النحويين لم يكونوا بمعزلٍ عن قضية النص المترابط ، بل إنهم كانوا – كغيرهم من بلاغيين ونقّاد ومفسّرين – ينظرون إلى النصّ بوصفه كُلًّا واحدًا متماسكًا ، وأنّ تلك النظرةَ كانت مستبطنةً في أعمالهم ، فلم يصرّحوا بها إلا في بعض المواطن ؛ وذلك لغلبة المنهج التعليميِّ المرتبطِ بمستوى الجملة الواحدة.
6- بين البلاغة ولسانيَّات النص:
في الحديث عن البلاغة ولسانيات النص، لا بد من الإشارة إلى التقارب المنهجي بينهما في النظرة إلى النصوص بصفة عامة، فبينهما نقاط تلاقٍ كثيرة، فالبلاغة هي السابقة التاريخية لعلم النص، وينبغي أن يشار هنا إلى أن كثيرا من الأفكار التي تبنتها لسانيات النص، والنظرات النصية بزغت من بحوث في البلاغة القديمة، ويضاف إلى ما سبق أن البلاغة تتوجه إلى المستمع أو القارئ لتؤثر فيه، كما أن البلاغة القديمة تضم الأفكار الجوهرية التي عنيت الدراسات النصية بالتوسع فيها
7- مفهوم التداولية
التداولية ليست علما لغويا بالمعنى التقليدي ،علما يكتفي بوصف وتفسير مكونات النص على المستوى اللغوي ،ولكنها علم جديد ينطلق من مبدأ التواصل يهتم بدراسة الظواهر اللغوية في مجالات الاستعمال.
إن التداولية تمثل حلقة وصل هامة بين حقول معرفية عديدة، منها : الفلسفة التحليلية، ممثلة في فلسفة اللغة العادية، ومنها علم النفس المعرفي ممثلا في “نظرية الملاءمة، ومنها علوم التواصل ، ومنها اللسانيات .
وبهذا فإن معظم الباحثين يقر بأن مهمة التداولية هي إيجاد القوانين الكلية للاستعمال اللغوي، والتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل ، و بهذا تصبح التداولية جديرة بأن تنعت ب :علم الاستعمال اللغوي.
مرجعيات التداولية:
1- الأفعال الكلامية : مستمدة من الفلسفة التحليلية
2- نظرية المحادثة: مستمدة من فلسفة بول غرايس
3- نظرية الملاءمة: مستمدة من نظريات علم النفس
اهتمامات التداولية
التداولية لا تدرس اللغة في ذاتها مثل البنيوية بل تدرس استعمال اللغة كخطاب صادر من مرسل محدد إلى مخاطب محدد.
التداولية تعتمد على الاستدلالات ومعالجة الملفوظات بمعنى معالجة النصوص اللغوية التي عجزت عن دراستها البنيوية
البنيوية لا تعتمد على المرجع أما التداولية فتحيل النص إلى مرجعة مثلا جملة لقد رفعوا ثمن الدقيق.
البنيوية لا تعود إلى المرجع أي إلى الضمير أما التداولية فإنها تبحث عن الضمير الذي زاد في ثمن الدقيق.
بين النص والخطاب ( اختلاف أم ائتلاف )
1- مفهوم النص والخطاب
بالنظر إلى مفهومي النص والخطاب نجد أنفسنا أمام كم هائل من التعريفات، وكل تعريف منها يعكس وجهة نظر مُعرِّفة . حيث يشتركان في الدلالة على النتاج اللغوي، وقد تباين موقف النقاد والدارسين في رصد طبيعة العلاقة بينهما تداخلاً، وتقاطعاً وتكاملاً، وتلك الآراء تمحورت حول موقفين رئيسيين:
1- موقف يقوم على عدم التمييز بينهما، واستخدامهما بمعنى واحد، أو للدلالة على شيء واحد، الذي هو العمل الأدبي .
2- موقف يقوم على التمييز بينهما، واستخدامهما بمعنى مختلف.
أولاً: النصّ
من اللافت للنظر أن المعاجم اللغوية العربية تميز بين هذين المصطلحين دلالياً، فالنص يدور حول:
1- النص : رفع الشيء وإظهاره وجعله بارزاً عما سواه،
2- نصنص الشيء : حركه من موضعه
3- نَصَّ المتاعَ : رتبه ووضع بعضه على بعض.
4- نصصت الرجل : إذا سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده.
5- نص كل شيء : منتهاه وأقصاه وغايته.
أما المعنى الشائع بين متكلّمي اللغة العربية المعاصرة فهو: صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلّف.
وقد يستعمل النصّ أحياناً في معان اصطلاحية، مثل: النصّ في علم الحديث؛ وهو التوقيف والتعيين، والنصّ في الكتابات الأصولية والفقهية هو القرآن الكريم، أو هو مجموعة من القواعد المستمدّة من القرآن والسنة، إذ تعتمد القاعدة الفقهية على أنّ لا اجتهاد مع وجود النصّ. وهناك النصّ والرأي، أو النقل والعقل.
أما البحث في مفهوم النصّ الاصطلاحي عند  القدماء، فلم يلقَ اهتماما يُذكر سوى من علماء الأصول، فالنصّ ما “لا يحتمل إلا مـعنى واحدا” .
وللنصّ مفهوم اصطلاحي آخر عند  الأصوليين، إذ يطلقون النصّ على كلّ ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب  والسنة، سواء أكان ظاهراً، أم نصاً، أم مفسّراً، أي إنّ كلّ ما ورد عن صاحب الشرع فهو نص.
ومن المفكرين العرب المعاصرين مَنْ حاول وضع تعريفات للنصّ تتلاءم والثقافة السائدة، منها تعريف طه عبد الرحمن للنصّ بأنّه: “بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها  بعـدد مـن العلاقات”[xiii] إنّ غياب تعريف للنصّ بالمعنى الاصطلاحي الحديث، لا يعني عدم معرفة العرب به، أو عدم وجود جذور له في العربية، إذ تناول علماء العرب النصّ، ومارسوه، وإنّ اختلف المنهج المتّبع؛ فالتعريف غائب، ولكن ممارسته حاضرة. وفي البلاغة العربية ظهرت النظرة الكلّية إلى النصّ، لدى غير واحد من البلاغيين. فنجد الباقلاني (ت403هـ) – مثلاً – في كتابه “إعجاز القرآن” يؤكد في أكثر من موضع، هذه النظرة الكلّية للنصّ القرآني، فيقول: “وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرّف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها، على حدّ واحد، في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدّ واحد لا يختلف”[xiv] أما عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ)، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكّن القارئ من الوقوف على جماليات النصّ الأدبي. فهو – في نظره – لا يستطيع أن يحكم على المزية فيه من قراءة البيت أو الأبيات الأولى، بل يقتضيه هذا النظر والانتظار حتى يقرأ بقية الأبيات، وقد لا يستطيع أن يقف على أسرار النصّ ما لم يستفرغ جهده في تأمل القطعة الأدبية كاملة، وبعد ذلك يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما فيها من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير.[xv] وأنكر ضياء الدين ابن الأثير(ت637 هـ) في كتابه “المثل السائر” ما كان قد ذهب إليه الجمهور، من أهل النظر البلاغي، وهو أنّ البيت الشعري يجب أن يكون مستقلاً الاستقلال الكلّي عن غيره من الأبيات، وأنّه لا يجوز أن يكتمل معناه في أول البيت الثاني.
نستضيء بما تقدّم أنّ العرب القدامى عرفوا النصّ، وأدركوا أهمية أنّ الكلام لا تتحقّق دلالته الكلّية بالجمل المفردة، بل بالمجموع الكلّي للجمل المؤلّفة للنصّ. ويرشدنا الأدب العربي إلى إشارات كثيرة تؤكّد أنّ النصّ غير متناه في الإنتاج والحركة، وقابل لكلّ زمان ومكان، لأنّ فاعليته تتولّد من نصّيته. إذ أشارت هذه الكتب إلى ممارسات نصّية عدّة، بخصائص ومميّزات تختلف بين العصور الأدبية، ولكن “لم يعرف العرب في تاريخهم ممارسة نصيّة كما عرفوها مع القرآن.
النص.. الأساس اللساني
من العسير تحديد ماهية النص وأبعاده الاصطلاحية لتنوع الاتجاهات وتعدد الرؤى،لكونه فضاء لأبعاد مختلفة متعددة ومتنازعة إضافة إلى كونه شحنة انفعالية محكومة بضوابط لغوية وقيم أخلاقية ومرجعيات ثقافية وخصائص اجتماعية، لقد ظل النص محكوما بسلطتين: سلطة إنتاجه وسلطة القارئ ،وهناك علاقة جدلية بين المبدع والمتلقي ،وكل منهما يتمتع بسلطته. غير أن بعض المنظرين للمعرفة الأدبية واللغوية والفلسفية زهدوا في صنع تعريف ظاهر للنص ،كما يقول جيرار جينت” لا أهتم بتعريفه على الإطلاق إذ مهما كان النص فبإمكاني أن أدخله، وأن أحلله كما أشاء”.
وهكذا اتسع مفهوم هذا المصطلح وتشعب حقله تشعبا تجاوز أي حقل معرفي آخر، فأصبح النص كيانا منسوجا من الملصقات والتطعيمات والإضافات،إنه جسد من علاقات مختلفة ،بل إنه لعبة متفتحة ومنغلقة في الوقت ذاته، ولهذا السبب فمن المحال أن تكتشف النسب الوحيد والأولي للنص،ذلك أن النص مولود لأكثر من أب ،فليس للنص والد واحد بل مجموعة من الأقارب والأنساب والآباء،تتشكل على هيئة طبقات جيولوجية يصطف بعضها فوق بعض،وتتراكم أتربة فوق أتربة مشكلة طبقة رسوبية وكل طبقة من طبقاته تنتمي إلى عصر معين دون غيره.
فالنص الواحد لا يتمتع بحداثة أو بقدم إنه يتناسل قي مجموعة من الأعمال وينزل دفقة واحدة، ولذلك فهو مطعم بمجموعة هذه الطبقات والتشكيلات الرسوبية[xvi] وقد خلص محمد مفتاح إلى تركيب تعريف جامع للنص فهو-أي النص-  مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة والملاحظ أن هذا التعريف قد حاول الإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بالنص: الاجتماعية، التاريخية، النفسانية واللسانية. وعموما فإن الباحثين لإشكالية النص يتوزعون على ثلاثة زمر في النظر إلى النص:
أ- يذهب جماعة منهم إلى تعريفه مباشرة من خلال مكوناته ،يمثلهم تودوروف، فالنص في رأيه نظام تضميني يستطاع التمييز بين مكوناته على ثلاثة أوجه: ملفوظي ،نحوي ودلالي، وهو يوازي النظام اللغوي ويتداخل معه.
ب- قسم ثان يعرفه من خلال ارتباطه مع الإنتاج الأدبي ويمثله رولان بارت وجوليا كريستيفا ،فالنص في مفهومهما نسيج من الكلمات المنظومة في التأليف والمنسقة بشكل ثابت، أهم مهماته إنه يضمن بقاء الشيء المكتوب وهو مرتبط تاريخيا بعالم أكمل من النظم :القانون والأدب والدين والتعليم.
ج- يذهب قسم ثالث إلى ربطه بفعل الكتابة يمثله بول ريكور ،فالنص من منظور لساني، هو كل خطاب تثبته الكتابة ،إذ هو أداء لساني وإنجاز لغوي يقوم به فرد معين.
وعلى أية حال،فالنص ظاهرة رمزية تتحدد ماهيته من خلال علاقته مع خارجه ،ويتعين بفعل مكوناته الداخلية وهو ليس مجرد مجموعة من الرموز اللغوية ،بل إنه بنية معقدة متعددة المستويات ،إنه تشكيلة كثيفة من علاقات الربط اللغوي والدلالي والتماسك المنطقي، تتداخل فيها مساحات من الإيحاءات النفسية والاجتماعية والتاريخية وغيرها.
ثانياً: الخطاب
وأما الخطاب فتشير مدلولاته المعجمية إلى :
1- الخطاب :المواجهة بالكلام بين اثنين أو أكثر
2- الخطبُ :الشأن أو الأمر صغُر أو عظُم
3- الخِطبة : طلب النكاح
4- الخُطبة : إلقاء الكلام بغية التأثير والإقناع
وقد ورد لفظ الخطاب في الذكر الحكيم بتركيبين متغايرين:
1- ورد مرة على بنية فعلية ثنائية: “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”،”ولا تخاطبني في الذين ظلموا”
2- ورد على شكل بنية وصفية، بلفظ الخطاب في ثلاثة مواضع قال بعض المفسرين في قوله تعالى:”وفصل الخطاب”  قالوا :هو أن يحكم بالبينة أو باليمين ،وقيل معناه إنه يفصل بين الحق والباطل، ويميز بين الحكم وضده ،وقيل فصل الخطاب.أما بعد- وداود عليه السلام- أول من قال :أما بعد :وقيل فصل الخطاب الفقه في القضاء. وقال أبو العباس :معنى أما بعد: أما بعد ما مضى من الكلام فهو كذا وكذا.
اصطلاحا: دال الخطاب متعدد الأبعاد لكونه فضاء معرفي لمساحات لغوية مختلفة ومتغايرة، تحيل الباحث إلى ركام هائل من التعريفات والحدود تتقاطع مع نظرات خاصة ومرجعيات متنوعة. إن الخلاف حول ماهية الخطاب تكمن في اختلاف التصور الذي يلملم حدوده ومفاهيمه، والأهداف المبتغيات من دراسته لأن الظاهرة الخطابية تتبلور وفق منطلقات اجتماعية نفسية وحضارية.
الخطاب في التراث الغربي:
يشير أحد الباحثين إلى مسألة هامة، وهي أن دلالات الخطاب اصطلاحا تختلف عن دلالاته في المعجم ،إذ يدخل في تشكيل دلالاته العلاقات التي تبين أغراضه ،فيكون الخطاب بذلك إنشاء الكلام من لدن المتكلم وفهمه من لدن المخاطب عمليتين لا انفصال لإحداهما عن الأخرى، وانفراد المتكلم في النطق حتى يقاسمه المخاطب دلالته، لأن هذه الدلالات الخطابية لا تنزل على ألفاظها نزول المعنى على المفردات، وإنما تنشأ وتتكاثر وتنقلب وتتعرف من خلال العلاقة التخاطبية، متجهة شيئا فشيئا إلى تحصيل الاتفاق عليها بين المتكلم ونظيره المخاطب بعد أن تكون قد تدرجت متجاوزة اختلاف مقتضيات مفاهيمها واختلاف عقدها للدلالات.
الخطاب عمل جماعي تعتمد فيه العبارة ،أي الكلمات والمعاني المستخدمة فيها على الموضع الذي ألقيت فيه هذه العبارة ،وعلى الشيء الذي كانت موجهة له، وبهذا يمكن تحديد الخطاب اصطلاحا بوصفه مجالا بعينه من الاستخدام اللغوي عن طريق المؤسسات التي ينتمي إليها، والوضع الذي ينشأ عنه والذي يعنيه هذا الخطاب للمتكلم، ومع ذلك لا يقوم هذا الوضع مستقلا بنفسه، والواقع أنه يمكن أن يفهم على أنه وجهة نظر صدر عنها الخطاب خلال اتصاله بخطاب آخر معارض له أساسا.
فالخطاب مجموعة من العلامات توصف بأنها عبارات ملفوظة يمكن تعيين أنماط وجودها الخاصة هذا من الناحية السيميائية، ولقد تعدى اللسانيون هذا المفهوم، وتجاوز أصحاب التحليل التداولي ما قدمه سابقوهم بإعطاء مصطلح الخطاب تصورا أكثر شمولا في عملية الاتصال، كما يقول ميشال فوكو.
ويمكن تلخيص المقاربات الاصطلاحية كما يأتي:
– الخطاب مصطلح مرادف للكلام بحسب رأي سوسير اللساني البنيوي ،وهناك خطاب أدبي بحسب رأي موريس.
-الخطاب وحدة لغوية ينتجها المتكلم تتجاوز أبعاد الجملة أو الرسالة، بحسب رأي هاريس
-الخطاب وحدة لغوية تفوق الجملة يولد من لغة اجتماعية بحسب رأي بنفنيست .
-الخطاب يقابل مفهوم الملفوظ في المدرسة الفرنسية، إذ يرى روادها أن النظر إلى النص بوصفه بناء لغويا يجعل منه ملفوظا، أما البحث في ظروف إنتاجه يجعل منه خطابا .
– وهو نظير بنيوي لمفهوم الوظيفة في استعمال اللغة بحسب رأي تودوروف .
– الخطاب منطوق أو فعل كلامي يفترض وجود راوٍ أو مستمع ، وعند الأول فيه نية التأثير في الآخر بطريقة معينة كما يقول بنفنيست .
ويمكن تلخيص مفهوم الخطاب من خلال وضع الاصطلاح الأكثر عمومية، فهو نظام تعبير متقن ومضبوط وهذا البناء ليس في جوهره إلا بناء فكريا يحمل وجهة نظر، وقد تمت صياغته في بناء استدلالي أي بشكل مقدمات ونتائج، فهو معرفة منظمة خاصة بجانب محدد من الواقع أو ظاهرة محددة، ومن ثم يمكن الحديث عن خطابات متعددة: سياسية، فلسفية وعلمية.
وهكذا فمصطلح الخطاب يتمظهر من خلال الفصل بين اللغة بوصفها مفهوما مجردا، أو هي نظام متجانس في الوقت نفسه ،وبين اللغة في حالة الاستخدام إذ تكون ممارسة اجتماعية:وهي تكون عندئذ ظاهرة اجتماعية محكومة بجملة شروط وظروف تكون بها جزءا من سيرورة المجتمع.
والنص لم يرد في الكتاب المعجز إطلاقا فيما تكرر استخدام لفظ الخطاب، وهنا نخلص إلى أن الخطاب أوسع من النص، ويصبح النص جزءا من الخطاب،إذ هو أداة من أدوات التخاطب أي أنه مقولة لغوية أسقطت في إطار نظام الاتصال اللفظي البشري كما شخصه ياكبسون .
ومن تلك المدلولات يظهر لنا أن الخطاب يركز في مضمونه على تبادل الكلام بين اثنين بغية الإقناع والتأثير ، بمعنى ضرورة وجود طرفين مرسل ومتلقي يكتمل بحضورهما حصول الخطاب والتخاطب ، وأما النص فيشترط حضور منصوص ( نص ) وحضور ( ناص ) ينصه، أي يحركه من مكانه ويرفعه حتى يبدو جلياً وبارزاً أكثر من غيره، و يسائله حتى يستقصي جميع ما عنده لكي يصل إلى منتهاه وأقصى غايته التي نُص لأجلها.
بين النص والخطاب
عندما نقرأ بعض الدراسات نجد كثيرا منها قد استعملت مصطلح النص text  وهي تقصد الخطاب discours، ونجد كثيرا منها قد استعملت الخطاب وهي تقصد النص. ولذلك نتساءل ما الفرق بين النص والخطاب ؟ أين يلتقيان وأين يفترقان ؟
إن مصطلح الخطاب متعدد المعاني، فهو وحدة تواصلية إبلاغية، ناتجة عن مخاطب معين وموجهة إلى مخاطب معين في مقام وسياق معينين يدرس ضمن ما يسمى الآن بـ “لسانيات الخطاب”
ويمكن أن نبين الفرق بين الخطاب وبين النص كما يلي:
1 – يفترض الخطاب وجود السامع الذي يتلقى الخطاب، بينما يتوجه النص الى متلق غائب يتلقاه عن طريق عينيه قراءة أي أن الخطاب نشاط تواصلي يتأسس – أولا وقبل كل شيء – على اللغة المنطوقة بينما النص مدونة مكتوبة.
2- الخطاب لا يتجاوز سامعه الى غيره، أي أنه مرتبط بلحظة إنتاجه، بينما النص له ديمومة الكتابة فهو يقرأ في كل زمان ومكان..
3- الخطاب تنتجه اللغة الشفوية بينما النصوص تنتجها الكتابة، فالخطاب محدود بالقناة النطقية بين المتكلم والسامع وعليه فإن ديمومته مرتبطة بهما لا تتجاوزهما، أما النص فإنه يستعمل نظاما خطيا وعليه فإن ديمومته رئيسية في الزمان والمكان.
إن الخطاب عن رأي ليتش وزميله شورت – تواصل لساني ينظر إليه كإجراء بين المتكلم والمخاطب، أي أنه فاعلية تواصلية يتحدد شكلها بواسطة غاية اجتماعية. أما النص فهو أيضا تواصل لساني مكتوب. وتبعا لهذا فإن الخطاب يتصل بالجانب التركيبي والنص بالجانب الخطي كما يتجلى لنا على الورق.
ولكن على الرغم من هذه الفروق فإنه يوجد من لا يفرق بين الخطاب وبين النص ويستعملهما بالمعنى نفسه، السرديون: “جينيت ” و”تودوروف ” و”فاينريش” لا يميزون بينهما.
وينقسم أصحاب الدراسات النقدية الحديثة في تفريقهم بين النص والخطاب، إلى أربع فئات:
1- فئة تفرق بينهما على أساس تكاملي ، أي على أساس أن النص يمثل شكل العمل الأدبي ، أو بنيته السطحية الظاهرة، أما الخطاب فيمثل مضمونه الباطن، أو بنيته العميقة، وذكر منهم (روجر فاولر(
2- فئة أقامت التفريق على أساس ما بينهما من عموم وخصوص، أو على أساس اتفاقهما في شيء أو صفة، واختلافهما في شيء أو صفة أخرى، وهي الفئة التي جعلت الخطاب يتصل بالجانب التركيبي، وجعلت النص يتصل بالجانب الكتابي، وذكر منهم (ليتش وزميله شورت) اللذين جعلا الفرق يكمن في زاوية النظر إلى هذا الفعل، فالخطابية سمة متعلقة بعملية الإنتاج، والنصية سمة نوعية متعلقة بعملية التلقي.
3- فئة تفرق بين الخطاب والنص على أساس ما بينهما من تداخل وتمازج، فالنص هو ما ينصصه الخطاب، أي ما يظهره ويذكر منهم الدكتور الحميري (فان ديك) الذي يعرف الخطاب بأنه السياق التداولي للنص فالخطاب لديه ” هو في آن واحد، فعل الإنتاج اللفظي “للنص” ونتيجته الملموسة والمسموعة والمرئية.
4- الفئة الرابعة فتقيم تفريقها على أساس المظهر الكتابي الذي يتحلى به النص دون الخطاب وذكر منهم (بول ريكور) الذي يعتبر النص كل خطاب مثبت بواسطة الكتابة … فالخطاب تنتجه اللغة الشفوية، بينما النصوص تنتجها الكتابة.
بيد أن هناك فئة خامسة يمكن أن تضاف إلى الفئات الأربع السابقة، وهي الفئة التي تنظر إلى الخطاب بوصفه بنية كلية تستوعب النص أو مجموعة النصوص ، ويأتي في طليعة هذه الفئة ميشال فوكو الذي يصف الخطاب بأنه: ” الطريقة التي بها تتشكل الجمل مكونة نظاماً متتابعاً تسهم به في تشكيل نسق كلي مغاير متحد الخواص ، وعلى نحو يمكن معه أن تتألف الجمل في خطاب بعينه لتشكل نصاً منفرداً ، أو تتألف النصوص نفسها في نظام متتابع ليشكل خطاباً أوسع ينطوي على أكثر من نص مفرد ”
[i] نعمان بوقرة ، المصطلحات الأساسية في لسانيات النص وتحليل الخطاب دراسة معجمية، عالم الكتب الحديث، إربد، ط1، 2009، ص9
[ii] الزبيدي الأندلسي،طبقات النحويين و اللغويين، ص 21
[iii] السيد – عبدا لرحمن: المدرسة البصرية النحوية نشأتها و تطورها، القاهرة، دار المعارف، 1388ق 1968م ، ص 149
[iv] بروكلمان – كارل: تاريخ الأدب العربي، ج 2، ص 196
[v] بروكلمان – كارل: تاريخ الأدب العربي، ج 2، ص 196
[vi] أمين احمد: ضحى‏الإسلام، ج 2، ص 294
[vii] المخزومي مهدي، مدرسة الكوفة و منهجها في دراسة اللغة و النحو، ص79
[viii] المرجع السابق، ص334
[ix] السيد – عبدا لرحمن: المدرسة البصرية النحوية نشأتها و تطورها، القاهرة، دار المعارف، 1388ق 1968م ،ص145
[x] أمين احمد: ضحى‏الإسلام، ج 2، ص 297
[xi] السيد – عبدا لرحمن: المدرسة البصرية النحوية نشأتها و تطورها، القاهرة، دار المعارف، 1388ق 1968م ،ص113
[xii] عبد الرحمن أيوب، دراسات نقدية في النحو العربي، ص125
[xiii] طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط1، 1987؛ 27.
[xiv] أبو بكر الباقلاني، إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1971: 37.
[xv] أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط5، 2005م؛ 87-88.
[xvi] حسين محمد حماد،تداخل النص وص في الرواية العربية،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، 1997 ص . 3

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى