مقالات في اللسانيات

بين النص والخطاب ( اختلاف أم ائتلاف )

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

بالنظر إلى مفهومي النص والخطاب نجد أنفسنا أمام كم هائل من التعريفات، وكل تعريف منها يعكس وجهة نظر مُعرِّفة . حيث يشتركان في الدلالة على النتاج اللغوي، وقد تباين موقف النقاد والدارسين في رصد طبيعة العلاقة بينهما تداخلاً، وتقاطعاً وتكاملاً، وتلك الآراء تمحورت حول موقفين رئيسيين:

1- موقف يقوم على عدم التمييز بينهما، واستخدامهما بمعنى واحد، أو للدلالة على شيء واحد، الذي هو العمل الأدبي .

2- موقف يقوم على التمييز بينهما، واستخدامهما بمعنى مختلف.

أولاً: النصّ

من اللافت للنظر أن المعاجم اللغوية العربية تميز بين هذين المصطلحين دلالياً، فالنص يدور حول:

1- النص : رفع الشيء وإظهاره وجعله بارزاً عما سواه،
2- نصنص الشيء : حركه من موضعه
3- نَصَّ المتاعَ : رتبه ووضع بعضه على بعض.
4- نصصت الرجل : إذا سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده.
5- نص كل شيء : منتهاه وأقصاه وغايته.
أما المعنى الشائع بين متكلّمي اللغة العربية المعاصرة فهو: صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلّف.

وقد يستعمل النصّ أحياناً في معان اصطلاحية، مثل: النصّ في علم الحديث؛ وهو التوقيف والتعيين، والنصّ في الكتابات الأصولية والفقهية هو القرآن الكريم، أو هو مجموعة من القواعد المستمدّة من القرآن والسنة، إذ تعتمد القاعدة الفقهية على أنّ لا اجتهاد مع وجود النصّ. وهناك النصّ والرأي، أو النقل والعقل.

أما البحث في مفهوم النصّ الاصطلاحي عند  القدماء، فلم يلقَ اهتماما يُذكر سوى من علماء الأصول، فالنصّ ما “لا يحتمل إلا مـعنى واحدا” .
وللنصّ مفهوم اصطلاحي آخر عند  الأصوليين، إذ يطلقون النصّ على كلّ ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب  والسنة، سواء أكان ظاهراً، أم نصاً، أم مفسّراً، أي إنّ كلّ ما ورد عن صاحب الشرع فهو نص.

ومن المفكرين العرب المعاصرين مَنْ حاول وضع تعريفات للنصّ تتلاءم والثقافة السائدة، منها تعريف طه عبد الرحمن للنصّ بأنّه: “بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها  بعـدد مـن العلاقات”[1]

إنّ غياب تعريف للنصّ بالمعنى الاصطلاحي الحديث، لا يعني عدم معرفة العرب به، أو عدم وجود جذور له في العربية، إذ تناول علماء العرب النصّ، ومارسوه، وإنّ اختلف المنهج المتّبع؛ فالتعريف غائب، ولكن ممارسته حاضرة. وفي البلاغة العربية ظهرت النظرة الكلّية إلى النصّ، لدى غير واحد من البلاغيين. فنجد الباقلاني (ت403هـ) – مثلاً – في كتابه “إعجاز القرآن” يؤكد في أكثر من موضع، هذه النظرة الكلّية للنصّ القرآني، فيقول: “وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرّف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها، على حدّ واحد، في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدّ واحد لا يختلف”[2] أما عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ)، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكّن القارئ من الوقوف على جماليات النصّ الأدبي. فهو – في نظره – لا يستطيع أن يحكم على المزية فيه من قراءة البيت أو الأبيات الأولى، بل يقتضيه هذا النظر والانتظار حتى يقرأ بقية الأبيات، وقد لا يستطيع أن يقف على أسرار النصّ ما لم يستفرغ جهده في تأمل القطعة الأدبية كاملة، وبعد ذلك يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما فيها من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير.[3] وأنكر ضياء الدين ابن الأثير(ت637 هـ) في كتابه “المثل السائر” ما كان قد ذهب إليه الجمهور، من أهل النظر البلاغي، وهو أنّ البيت الشعري يجب أن يكون مستقلاً الاستقلال الكلّي عن غيره من الأبيات، وأنّه لا يجوز أن يكتمل معناه في أول البيت الثاني.

نستضيء بما تقدّم أنّ العرب القدامى عرفوا النصّ، وأدركوا أهمية أنّ الكلام لا تتحقّق دلالته الكلّية بالجمل المفردة، بل بالمجموع الكلّي للجمل المؤلّفة للنصّ. ويرشدنا الأدب العربي إلى إشارات كثيرة تؤكّد أنّ النصّ غير متناه في الإنتاج والحركة، وقابل لكلّ زمان ومكان، لأنّ فاعليته تتولّد من نصّيته. إذ أشارت هذه الكتب إلى ممارسات نصّية عدّة، بخصائص ومميّزات تختلف بين العصور الأدبية، ولكن “لم يعرف العرب في تاريخهم ممارسة نصيّة كما عرفوها مع القرآن.

النص.. الأساس اللساني

من العسير تحديد ماهية النص وأبعاده الاصطلاحية لتنوع الاتجاهات وتعدد الرؤى،لكونه فضاء لأبعاد مختلفة متعددة ومتنازعة إضافة إلى كونه شحنة انفعالية محكومة بضوابط لغوية وقيم أخلاقية ومرجعيات ثقافية وخصائص اجتماعية، لقد ظل النص محكوما بسلطتين: سلطة إنتاجه وسلطة القارئ ،وهناك علاقة جدلية بين المبدع والمتلقي ،وكل منهما يتمتع بسلطته. غير أن بعض المنظرين للمعرفة الأدبية واللغوية والفلسفية زهدوا في صنع تعريف ظاهر للنص ،كما يقول جيرار جينت” لا أهتم بتعريفه على الإطلاق إذ مهما كان النص فبإمكاني أن أدخله، وأن أحلله كما أشاء”.

وهكذا اتسع مفهوم هذا المصطلح وتشعب حقله تشعبا تجاوز أي حقل معرفي آخر، فأصبح النص كيانا منسوجا من الملصقات والتطعيمات والإضافات،إنه جسد من علاقات مختلفة ،بل إنه لعبة متفتحة ومنغلقة في الوقت ذاته، ولهذا السبب فمن المحال أن تكتشف النسب الوحيد والأولي للنص،ذلك أن النص مولود لأكثر من أب ،فليس للنص والد واحد بل مجموعة من الأقارب والأنساب والآباء،تتشكل على هيئة طبقات جيولوجية يصطف بعضها فوق بعض،وتتراكم أتربة فوق أتربة مشكلة طبقة رسوبية وكل طبقة من طبقاته تنتمي إلى عصر معين دون غيره.

فالنص الواحد لا يتمتع بحداثة أو بقدم إنه يتناسل قي مجموعة من الأعمال وينزل دفقة واحدة، ولذلك فهو مطعم بمجموعة هذه الطبقات والتشكيلات الرسوبية[4]

وقد خلص محمد مفتاح إلى تركيب تعريف جامع للنص فهو-أي النص-  مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة والملاحظ أن هذا التعريف قد حاول الإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بالنص: الاجتماعية، التاريخية، النفسانية واللسانية. وعموما فإن الباحثين لإشكالية النص يتوزعون على ثلاثة زمر في النظر إلى النص:

أ- يذهب جماعة منهم إلى تعريفه مباشرة من خلال مكوناته ،يمثلهم تودوروف، فالنص في رأيه نظام تضميني يستطاع التمييز بين مكوناته على ثلاثة أوجه: ملفوظي ،نحوي ودلالي، وهو يوازي النظام اللغوي ويتداخل معه.

ب- قسم ثان يعرفه من خلال ارتباطه مع الإنتاج الأدبي ويمثله رولان بارت وجوليا كريستيفا ،فالنص في مفهومهما نسيج من الكلمات المنظومة في التأليف والمنسقة بشكل ثابت، أهم مهماته إنه يضمن بقاء الشيء المكتوب وهو مرتبط تاريخيا بعالم أكمل من النظم :القانون والأدب والدين والتعليم.

ج- يذهب قسم ثالث إلى ربطه بفعل الكتابة يمثله بول ريكور ،فالنص من منظور لساني، هو كل خطاب تثبته الكتابة ،إذ هو أداء لساني وإنجاز لغوي يقوم به فرد معين.

وعلى أية حال،فالنص ظاهرة رمزية تتحدد ماهيته من خلال علاقته مع خارجه ،ويتعين بفعل مكوناته الداخلية وهو ليس مجرد مجموعة من الرموز اللغوية ،بل إنه بنية معقدة متعددة المستويات ،إنه تشكيلة كثيفة من علاقات الربط اللغوي والدلالي والتماسك المنطقي، تتداخل فيها مساحات من الإيحاءات النفسية والاجتماعية والتاريخية وغيرها.

ثانياً: الخطاب

وأما الخطاب فتشير مدلولاته المعجمية إلى :

1- الخطاب :المواجهة بالكلام بين اثنين أو أكثر
2- الخطبُ :الشأن أو الأمر صغُر أو عظُم
3- الخِطبة : طلب النكاح
4- الخُطبة : إلقاء الكلام بغية التأثير والإقناع
وقد ورد لفظ الخطاب في الذكر الحكيم بتركيبين متغايرين:
1- ورد مرة على بنية فعلية ثنائية: “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”،”ولا تخاطبني في الذين ظلموا”
2- ورد على شكل بنية وصفية، بلفظ الخطاب في ثلاثة مواضع قال بعض المفسرين في قوله تعالى:”وفصل الخطاب”  قالوا :هو أن يحكم بالبينة أو باليمين ،وقيل معناه إنه يفصل بين الحق والباطل، ويميز بين الحكم وضده ،وقيل فصل الخطاب.أما بعد- وداود عليه السلام- أول من قال :أما بعد :وقيل فصل الخطاب الفقه في القضاء. وقال أبو العباس :معنى أما بعد: أما بعد ما مضى من الكلام فهو كذا وكذا.

اصطلاحا: دال الخطاب متعدد الأبعاد لكونه فضاء معرفي لمساحات لغوية مختلفة ومتغايرة، تحيل الباحث إلى ركام هائل من التعريفات والحدود تتقاطع مع نظرات خاصة ومرجعيات متنوعة. إن الخلاف حول ماهية الخطاب تكمن في اختلاف التصور الذي يلملم حدوده ومفاهيمه، والأهداف المبتغيات من دراسته لأن الظاهرة الخطابية تتبلور وفق منطلقات اجتماعية نفسية وحضارية.

الخطاب في التراث الغربي:

يشير أحد الباحثين إلى مسألة هامة، وهي أن دلالات الخطاب اصطلاحا تختلف عن دلالاته في المعجم ،إذ يدخل في تشكيل دلالاته العلاقات التي تبين أغراضه ،فيكون الخطاب بذلك إنشاء الكلام من لدن المتكلم وفهمه من لدن المخاطب عمليتين لا انفصال لإحداهما عن الأخرى، وانفراد المتكلم في النطق حتى يقاسمه المخاطب دلالته، لأن هذه الدلالات الخطابية لا تنزل على ألفاظها نزول المعنى على المفردات، وإنما تنشأ وتتكاثر وتنقلب وتتعرف من خلال العلاقة التخاطبية، متجهة شيئا فشيئا إلى تحصيل الاتفاق عليها بين المتكلم ونظيره المخاطب بعد أن تكون قد تدرجت متجاوزة اختلاف مقتضيات مفاهيمها واختلاف عقدها للدلالات.

الخطاب عمل جماعي تعتمد فيه العبارة ،أي الكلمات والمعاني المستخدمة فيها على الموضع الذي ألقيت فيه هذه العبارة ،وعلى الشيء الذي كانت موجهة له، وبهذا يمكن تحديد الخطاب اصطلاحا بوصفه مجالا بعينه من الاستخدام اللغوي عن طريق المؤسسات التي ينتمي إليها، والوضع الذي ينشأ عنه والذي يعنيه هذا الخطاب للمتكلم، ومع ذلك لا يقوم هذا الوضع مستقلا بنفسه، والواقع أنه يمكن أن يفهم على أنه وجهة نظر صدر عنها الخطاب خلال اتصاله بخطاب آخر معارض له أساسا.

فالخطاب مجموعة من العلامات توصف بأنها عبارات ملفوظة يمكن تعيين أنماط وجودها الخاصة هذا من الناحية السيميائية، ولقد تعدى اللسانيون هذا المفهوم، وتجاوز أصحاب التحليل التداولي ما قدمه سابقوهم بإعطاء مصطلح الخطاب تصورا أكثر شمولا في عملية الاتصال، كما يقول ميشال فوكو.

ويمكن تلخيص المقاربات الاصطلاحية كما يأتي:

– الخطاب مصطلح مرادف للكلام بحسب رأي سوسير اللساني البنيوي ،وهناك خطاب أدبي بحسب رأي موريس.

-الخطاب وحدة لغوية ينتجها المتكلم تتجاوز أبعاد الجملة أو الرسالة، بحسب رأي هاريس

-الخطاب وحدة لغوية تفوق الجملة يولد من لغة اجتماعية بحسب رأي بنفنيست .

-الخطاب يقابل مفهوم الملفوظ في المدرسة الفرنسية، إذ يرى روادها أن النظر إلى النص بوصفه بناء لغويا يجعل منه ملفوظا، أما البحث في ظروف إنتاجه يجعل منه خطابا .

– وهو نظير بنيوي لمفهوم الوظيفة في استعمال اللغة بحسب رأي تودوروف .

– الخطاب منطوق أو فعل كلامي يفترض وجود راوٍ أو مستمع ، وعند الأول فيه نية التأثير في الآخر بطريقة معينة كما يقول بنفنيست .

ويمكن تلخيص مفهوم الخطاب من خلال وضع الاصطلاح الأكثر عمومية، فهو نظام تعبير متقن ومضبوط وهذا البناء ليس في جوهره إلا بناء فكريا يحمل وجهة نظر، وقد تمت صياغته في بناء استدلالي أي بشكل مقدمات ونتائج، فهو معرفة منظمة خاصة بجانب محدد من الواقع أو ظاهرة محددة، ومن ثم يمكن الحديث عن خطابات متعددة: سياسية، فلسفية وعلمية.

وهكذا فمصطلح الخطاب يتمظهر من خلال الفصل بين اللغة بوصفها مفهوما مجردا، أو هي نظام متجانس في الوقت نفسه ،وبين اللغة في حالة الاستخدام إذ تكون ممارسة اجتماعية:وهي تكون عندئذ ظاهرة اجتماعية محكومة بجملة شروط وظروف تكون بها جزءا من سيرورة المجتمع.

والنص لم يرد في الكتاب المعجز إطلاقا فيما تكرر استخدام لفظ الخطاب، وهنا نخلص إلى أن الخطاب أوسع من النص، ويصبح النص جزءا من الخطاب،إذ هو أداة من أدوات التخاطب أي أنه مقولة لغوية أسقطت في إطار نظام الاتصال اللفظي البشري كما شخصه ياكبسون .

ومن تلك المدلولات يظهر لنا أن الخطاب يركز في مضمونه على تبادل الكلام بين اثنين بغية الإقناع والتأثير ، بمعنى ضرورة وجود طرفين مرسل ومتلقي يكتمل بحضورهما حصول الخطاب والتخاطب ، وأما النص فيشترط حضور منصوص ( نص ) وحضور ( ناص ) ينصه، أي يحركه من مكانه ويرفعه حتى يبدو جلياً وبارزاً أكثر من غيره، و يسائله حتى يستقصي جميع ما عنده لكي يصل إلى منتهاه وأقصى غايته التي نُص لأجلها.

بين النص والخطاب

عندما نقرأ بعض الدراسات نجد كثيرا منها قد استعملت مصطلح النص text  وهي تقصد الخطاب discours، ونجد كثيرا منها قد استعملت الخطاب وهي تقصد النص. ولذلك نتساءل ما الفرق بين النص والخطاب ؟ أين يلتقيان وأين يفترقان ؟

إن مصطلح الخطاب متعدد المعاني، فهو وحدة تواصلية إبلاغية، ناتجة عن مخاطب معين وموجهة إلى مخاطب معين في مقام وسياق معينين يدرس ضمن ما يسمى الآن بـ “لسانيات الخطاب”

ويمكن أن نبين الفرق بين الخطاب وبين النص كما يلي:

1 – يفترض الخطاب وجود السامع الذي يتلقى الخطاب، بينما يتوجه النص الى متلق غائب يتلقاه عن طريق عينيه قراءة أي أن الخطاب نشاط تواصلي يتأسس – أولا وقبل كل شيء – على اللغة المنطوقة بينما النص مدونة مكتوبة.

2- الخطاب لا يتجاوز سامعه الى غيره، أي أنه مرتبط بلحظة إنتاجه، بينما النص له ديمومة الكتابة فهو يقرأ في كل زمان ومكان..

3- الخطاب تنتجه اللغة الشفوية بينما النصوص تنتجها الكتابة، أو كما قال “روبير اسكاربيت R. Escarpit “اللغة الشفوية تنتج خطابات des discours  بينما الكتابة تنتج نصوصا des textes   وكل منهما يحدد بمرجعية القنوات التي يستعملها الخطاب محدود بالقناة النطقية بين المتكلم والسامع وعليه فإن ديمومته مرتبطة بهما لا تتجاوزهما، أما النص فإنه يستعمل نظاما خطيا وعليه فإن ديمومته رئيسية في الزمان والمكان.

إن الخطاب عن رأي ليتش وزميله شورت – تواصل لساني ينظر إليه كإجراء بين المتكلم والمخاطب، أي أنه فاعلية تواصلية يتحدد شكلها بواسطة غاية اجتماعية. أما النص فهو أيضا تواصل لساني مكتوب. وتبعا لهذا فإن الخطاب يتصل بالجانب التركيبي والنص بالجانب الخطي كما يتجلى لنا على الورق.

ولكن على الرغم من هذه الفروق فإنه يوجد من لا يفرق بين الخطاب وبين النص ويستعملهما بالمعنى نفسه، السرديون: “جينيت ” و”تودوروف ” و”فاينريش” لا يميزون بينهما.

وينقسم أصحاب الدراسات النقدية الحديثة في تفريقهم بين النص والخطاب، إلى أربع فئات:
1- فئة تفرق بينهما على أساس تكاملي ، أي على أساس أن النص يمثل شكل العمل الأدبي ، أو بنيته السطحية الظاهرة، أما الخطاب فيمثل مضمونه الباطن، أو بنيته العميقة، وذكر منهم (روجر فاولر(
2- فئة أقامت التفريق على أساس ما بينهما من عموم وخصوص، أو على أساس اتفاقهما في شيء أو صفة، واختلافهما في شيء أو صفة أخرى، وهي الفئة التي جعلت الخطاب يتصل بالجانب التركيبي، وجعلت النص يتصل بالجانب الكتابي، وذكر منهم (ليتش وزميله شورت) اللذين جعلا الفرق يكمن في زاوية النظر إلى هذا الفعل، فالخطابية سمة متعلقة بعملية الإنتاج، والنصية سمة نوعية متعلقة بعملية التلقي.
3- فئة تفرق بين الخطاب والنص على أساس ما بينهما من تداخل وتمازج، فالنص هو ما ينصصه الخطاب، أي ما يظهره ويذكر منهم الدكتور الحميري (فان ديك) الذي يعرف الخطاب بأنه السياق التداولي للنص فالخطاب لديه ” هو في آن واحد، فعل الإنتاج اللفظي “للنص” ونتيجته الملموسة والمسموعة والمرئية.
4- الفئة الرابعة فتقيم تفريقها على أساس المظهر الكتابي الذي يتحلى به النص دون الخطاب وذكر منهم (بول ريكور) الذي يعتبر النص كل خطاب مثبت بواسطة الكتابة … فالخطاب تنتجه اللغة الشفوية، بينما النصوص تنتجها الكتابة.
بيد أن هناك فئة خامسة يمكن أن تضاف إلى الفئات الأربع السابقة، وهي الفئة التي تنظر إلى الخطاب بوصفه بنية كلية تستوعب النص أو مجموعة النصوص ، ويأتي في طليعة هذه الفئة ميشال فوكو الذي يصف الخطاب بأنه: ” الطريقة التي بها تتشكل الجمل مكونة نظاماً متتابعاً تسهم به في تشكيل نسق كلي مغاير متحد الخواص ، وعلى نحو يمكن معه أن تتألف الجمل في خطاب بعينه لتشكل نصاً منفرداً ، أو تتألف النصوص نفسها في نظام متتابع ليشكل خطاباً أوسع ينطوي على أكثر من نص مفرد . غير أن أغلب الدراسات ترادف بينهما وتعطيهما تعريفا واحدا، وبحسب رأيي أن الإشكالية بين المفهومين هي إشكالية مصطلحات لا غير؛ لأن كل باحث إذا تشيع إلى نظرية ما، أو انضوى تحت لواء رائد مؤسس، نجده يتبنى مصطلحاته في الدراسات والأبحاث التي يجريها، وهكذا تتعدد مصطلحات المفهوم الواحد من باحث إلى آخر.

[1] طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط1، 1987؛ 27. [2] أبو بكر الباقلاني، إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1971: 37. [3] أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط5، 2005م؛ 87-88. [4] حسين محمد حماد،تداخل النص وص في الرواية العربية،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، 1997 ص . 3

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى