مقالات في اللسانيات

دروس في الإحالة وأثرها في ترابط النص وتماسكه

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

الإحالة من أهم وسائل الاتساق والانسجام، وهي أهم معيار من المعايير التي تسهم في الكفاية النصية، فهي وسيلة من أهم وسائل سبك العبارات لفظياً دون إهمال لترابط الدلالات الكامنة تحتمها. فهي كما قال ” روبرت دي بوجراند ” :”صياغة أكبر قدر من المعلومات بإنفاق أقل قدر ممكن من الوسائل”. فالإحالة قادرة على صنع قنوات وجسور للتواصل بن مكونات النص الظاهرة وأجزائه المتباعدة. تلك الأجزاء التي تمثلها الكلمات والجمل والعبارات، كما ينبغي ألاَّ يصرفنا اهتمامنا بالجانب الشكلي للترابط عن الترابط الدلالي فهو هدفنا ونهاية غايتنا، ولن نغفله كما فعل “هاليدي ورقية حسن” عندما ركَّزا في كتابهما ” الاتساق في الإنجليزية” على الترابط الشكلي الملحوظ.
من المألوف عندما يرتجل المتحدث الكلام فإنه يعيد الألفاظ في العبارات والجمل والتراكيب التي تتحد في دلالتها، وهنا يأتي دور الإحالة لتعالج هذه المشكلة إنها تقوم بوظيفة الاقتصاد والثبات المعنوي، فاستخدام نظام الإحالات هو من قبيل الإيجاز والاختصار. وبالإضافة إلى الإيجاز تؤدي الإحالة إلى الدقة الدلالية؛ حيث يعود اللفظ إلى شيء سابق دون تكراره، فتكراره يؤدي إلى خلط حين يتكرر داخل النص الواحد، ومن هنا يمكن الخروج من رتابة الأسلوب مع إحكام السبك باستخدام وسائل مختلفة، تأتي في مقدمتها الإحالة.
مفهوم الإحالة:
لن نتحدث عن تعريف الإحالة لغة، بل سنكتفي بذكر مفهومها الاصطلاحي، فقد عرَّفَ “روبرت دي بوجراند” الإحالة بقوله:” يتم تعريف الإحالة عادة بأنها العلاقة بين العبارات من جهة وبين الأشياء والمواقف في العالم الخارجي الذي تشير إليه العبارات” في حين أهمل محمد خطابي في لسانيات النص الحديث عن مفهوم الإحالة.
ويمكننا أن نقترب من معنى الإحالة فنقول: هي علاقة دلالية تربط ألفاظ معينة بما تشير إليه هذه الألفاظ من ألفظ أو مواقف يدل غليها السياق اللغوي أو سياق المقام، ولقصدية المتكلم الأثر في منح المعنى لتلك الألفاظ المحيلة، ولهذا يقول ستروسن:” إن الإحالة ليست شيئا يقوم به تعبير ما؛ ولكنها شيء يمكن أن يحيل عليه شخص ما باستعماله تعبيرا معينا” وهذا الكلام ينبغي ألاَّ يدفعنا إلى إغفال أثر اللفظ الذي يحمل المعنى، فاللفظ هو الذي يحيل في الأمر بقصد المتكلم.
والإحالة في لسانيات النص هي أداة من أدوات انسجام النص وتماسكه؛ حيث تخلق علاقات معنوية من خلال عناصرها المختلفة، وذلك عن طريق مباشر بوجود عنصري الإحالة ( المحيل والمحال إليه ) دون حاجة إلى تأويل أحدهما؛ فحين أقول:” هذا هو الكتاب الذي قرأته ” فالهاء في (قرأته) ترجع إلى كلمة (الكتاب) السّابقة الذّكر وعوّضتها، فالمحيل والمحال إليه في هذا المثال ظاهران ولا يحتاجان إلى تأويل. وفي حال عدم وجود المحال إليه بشكل مباشر داخل النص يقوم المتلقي بتأويلها، ويرتبط هذا النوع من الإحالة بالمقام التّداوليّ المحيط بالنّص أو الملفوظ، وهنا يجدر بنا أن نؤكد على أهمية أن تتصف العلاقة بين المحيل والمحال عليه بالتوافق والانسجام من خلال اشتراكهما في مجموعة من العناصر التي تؤكد طبيعة تلك العلاقة، بعضها نحوي مثل إمكانية الإسناد إليه، والآخر صرفي مثل الإفراد والتثنية والجمع أو التذكير والتأنيث.
أدوات الإحالة:
ونعني بها تلك الأدوات أو الألفاظ التي تهدينا لتحديد المحال إليه داخل السياق اللغوي أو سياق المقام. وتتوافر تلك الأدوات في كل لغة طبيعية، وقد قسَّمها هاليدي ورقية حسن في كتابهما ” الاتساق في الإنجليزية ” إلى الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنة.
أولاً الضمائر:
لا يعوِّل النصيِّون على الضمائر المحيلة إلى متكلم أو مخاطب في عملية اتساق النص فهي تحيل خارج النص وذلك كالضمير أنا، أو نحن، أو أنت، أو أنتم، أو أنتن، إنما يعولون على ضمائر الغياب التي تحيل غالبا إلى شيء داخل النص، ومن ثمَّ تدفع المتلقي إلى البحث في النص عمّا يعود إليه الضمير.
ثانياً أدوات الإشارة:
ومنها ( هذا وهذه وهذان وهاتان وهؤلاء وذاك وذلك وتلك والآن وأمس وهنا وهناك … ) وتقوم هذه الأدوات بالربط النصي، ويتميز المفرد بالإحالة الموسعة ( وهي إمكانية الإحالة إلى جملة أو مجموعة من الجمل المتتالية، كما لو تابعنا مذيع النشرة الإخبارية عندما يقول :” هذا وسيصدر يوم الثلاثاء القادم بيان التأسيس لأول قناة تليفزيونية باكتتاب شعبي ” بعد أن يقرأ بالتفصيل خبرا عن تأسيس قناة تلفزيونية شعبية.
ثالثاً أدوات المقارنة:
ونعني بها تلك الأدوات التي تؤدي إلى التشبيه أو المقارنة أو الاختلاف كما في ( مثل، مشابه، أكثر، أقل، أكبر، كبير مثل، مقارنة بما، أسوة بــ … ) وهي لا تختلف عن أدوات الإشارة من حيث الوظيفة الاتساقية.
رابعاً الأسماء الموصولة:
ولا تملك هذه الأدوات دلالة مستقلة بل تعود إلى عنصر مذكور في أجزاء النص، ومن هذه الأدوات ( الذي، التي، اللذان، اللتان، الذين … ) ومثلها مثل الأدوات السابقة؛ حيث لا تحمل دلالة خاصة، وكأنها تعويض عما تحيل إليه، عندما تصنع ربطاً دلالياً بين ما قبلعا وما بعدها.
وتتصف هذه الأدوات بسمات أهما أنها خالية من الدلالة؛ فهي غير ذات معنى ما لم يتحدد ما تشير إليه، كما أنها أشكال فارغة معجمياً تقوم بوظيفة تعويض الأسماء، وتكتسب محتوى ما تشير إليه. كما أن مداها يختلف باختلاف استخدامها؛ فتحيل تارة إلى قريب، وأخرى إلى بعيد، وأحيانا إلى معنى أو ذات، كما تحيل إلى جملة  أو مجموعة جمل ….
كما أن هذه الألفاظ أقصر مما تحيل إليه؛ فالضمير “هو” -مثلا- يدل على علم مذكر مثل : عبد العزيز، وهنَّ تشير إلى مجموعة من النساء وهكذا.
قد يصعب على المتلقي تحديد مرجعية الإحالة وذلك إما لوجود مسافة كبيرة بين اللفظ والمحال إليه، أو لوجود أكثر من مرجع دون دليل يعين المتلقي على تحديده، أو إذا كان المتلقي ضعيف الثقافة أو المعرفة بالموضوع الذي يتحدث عنه المتكلم، كما يزداد الأمر صعوبة إذا ارتبطت الإحالة بسياق المقام، وقد يكتنف الإحالةَ البعدية شيءٌ من الغموض؛ فالمتلقي لا يعرف ما الذي يشير إليه الضمير.

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى