مقالات في اللسانيات الحاسوبية

تنمية اللغة حاسوبيا في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصال

للأستاذ الدكتور علي القاسمي

الثورة الصناعية والثورة التكنولوجية:

كانت الثورة الصناعية معينًا لجسم الإنسان ودعمًا لعضلاته. أما ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال، فهي امتدادٌ لعقل الإنسان، وتطويرٌ لنشاطه الذهني. فقد قامت الثورة الصناعية، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من القرن العشرين، على اختراع آلات تحول مواد الطاقة، أو الوقود، إلى قوة محركة في شكل محركات بخارية وكهربائية وغيرها. واعتمدت تقسيم العمل إلى أجزاء متخصصة، للإسراع في عملية الإنتاج ووفرته. وكانت تلك المحركات بمثابة امتداد لجسم الإنسان، فوهبته قدرات مادية جديدة مكّنتهمن تغيير كثير من معالم الطبيعة لترقية معيشته.

وصاحب الثورة الصناعية سيلٌ من المصطلحات الحضارية والعلمية والتقنية، ونمو كمي وكيفي في حقول المعرفة الإنسانية. فاضطلعت المجامع اللغوية العلمية العربية بالتصدي لنقل تلك المصطلحات، التي توصف بأنها مفاتيح العلوم إلى اللغة العربية، لتمكين الأمة من استيعاب المعارف العلمية والتقنية الجديدة، وتمثّلها، وإعادة إنتاجها والإبداع فيها.
أما ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال، فقد تفجَّرت في أواخر القرن العشرين، وقامت على علم الذكاء الاصطناعي الذي يسعى إلى فهم طبيعة الذكاء البشري وتصميم برامج حاسوبية قادرة على محاكاة عمل العقل الإنساني، بحيث تستطيع هذه البرامج انتقاء الطريقة التي ينبغي اتباعها لحل مشكلة من المشكلات أو لاتخاذ قرار من القرارات.، أي تمكين الحاسوب  من إنجاز المهام التي تتطلب ذكاء وفطنة. وهكذا أصبح الحاسوب مجالاً تطبيقيًّا لاختبار صحة الفرضيات حول الكيفية التي يعمل بها العقل البشرى.
ولما كانت دراسة العقل البشري تتطلب جمعًا من التخصصات العلمية كاللسانيات والمنطق وعلم النفس والتشريح والكيمياء، فإن علم الذكاء الاصطناعي أصبح ـ هو الآخرـ ملتقى لتلك العلوم. فانتقلت طريقة الإنجاز من التخصص وتقسيم العمل إلى شمولية المعرفة ووحدتها.
وتوصلت دراسات الذكاء الاصطناعي إلى أن الوظيفة الأساسية للعقل الإنساني، التي تميزه عن العقل الحيواني، هي قدرته على إنتاج واستعمال الأنظمة الرمزية وفي مقدمتها النظام الرمزي اللغوي المستخدم في التواصل، وتمثيل المعلومات، وتخزين المعارف ونقلها. فقامت برامج الحاسوب على هذا الأساس.
وإذا كانت برامج الحاسوب نتيجة دراسة المبادئ التي تحكم النشاط الذهني، والتوصل إلى الكيفية التي يعمل بها العقل البشري ، فإن هذه البرامج وبنيتها أخذت تؤثر في النشاط الذهني للإنسان وتغيّر طريقة عمل العقل البشري نفسه، إذ أصبحت مثالاً يحذو حذوه هذا العقل في التحليل والتركيب والاستدلال واستخلاص النتائج.
ومثلما أفرزت الثورة الصناعية كمًّا هائلاً من المفاهيم العلمية والتقنية والمصطلحات التي تعبر عنها، فإن ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال أفرزت وما زالت تفرز طيفًا واسعًا من البرامج الحاسوبية.
ولا تقتصر هذه البرامج على برامج تشغيل الحاسوب، وإنما اتسعت لتشمل جميع أوجه النشاط الفكري الإنساني: العلمي، والاقتصادي، والاجتماعي. فهنالك برامج للتعلّم الإلكتروني والجامعات الافتراضية، وهناك برامج طبية تعين الطبيب على تشخيص الأمراض أو قيام الحاسوب بإجراء بعض العمليات الجراحية بدقة متناهية، وهناك برامج للمكفوفين تحوّل معلومات الشبكة الدولية إلى معلومات منطوقة أو مكتوبة بطريقة بريل، وهناك برامج للتجارة الإلكترونية، وهنالك برامج لاختيار الزوج الصالح أو الزوجة المناسبة، إلخ.
ولهذا كله فإن تكنولوجيا المعلومات والاتصال أخذت تؤدي دورًا رئيسًا في التنمية البشرية الشاملة، فهي تطور الزراعة والصناعة والخدمات، وتؤثر في الاقتصاد في مختلف مراحله في التخطيط، والإنتاج، والتسويق، واستثمار الأرباح.

تنمية اللغة العربية والتنمية البشرية الشاملة:

وتنمية اللغة العربية ليست عملية لفظية خالصة وليست غايتها تحسين اللغة لذاتها، وإنما تشكل تنمية اللغة العربية جزءًا من التنمية البشرية الشاملة، الهادفة إلى توسيع مدارك الإنسان وقدراته، وترقية صحته ليعيش عمرًا مديدًا بحالة جيدة، وزيادة دخله لتحسين ظروف عيشه ونوعية حياته.

وغني عن القول إن التنمية اللغوية هي أساس التنمية البشرية الشاملة، فإتقان اللغة يؤدي إلى تيسير اكتساب المعرفة وتمثلها وإعادة إنتاجها والإبداع فيها وتوثيقها ونقلها من جيل إلى جيل. وقد ثبت أن الاقتصاد العالمي الجديد مبني على المعرفة، فالنمو الاقتصادي يرتبط بالنمو العلمي والتقني للقوى العاملة، وبسرعة تبادل المعلومات والمعارف والخبرات. ومعروف أن أداة هذا النوع من التبادل هي اللغة. كما  أن أداة تبادل السلع فى السوق هى العملة، وكلما كانت العملة جيدة وموحدة، أصبحت عملية التبادل التجاري أيسر وأسرع. وبالمثل، كلما كانت اللغة ثرية موحدة يتقنها جميع المواطنين، أصبحت إشاعة المعارف والتقنيات وتبادلها ميسورة، وصار التعاون بين أفراد المؤسسات الاقتصادية ممهدًا، فيتكون مجتمع المعرفة، وتزداد وتيرة النمو الاقتصادي، وتتحقق التنمية البشرية المنشودة.

متطلبات ثورة المعلومات والاتصال:

وإذا كانت مرحلة الثورة الصناعية قد تطلبت منا نقل المصطلحات الأجنبية إلى العربية لاستيعاب مفاهيمها، فإن ثورة المعلومات والاتصال تستلزم منا نقل البرامج الحاسوبية إلى اللغة العربية لغُنم معطياتها، ومن ثم إثراء مخزون اللغة العربية المتجدد وتنميته.
ويشرفني أن أقترح ـ من هذا المنبر المتميزـ أن يبادر مجمع اللغة العربية إلى إنشاء لجان خاصة بنقل البرامج الحاسوبية إلى العربية، أسوة بلجان نقل المصطلحات العلمية والتقنية إلى العربية. وستضم كل لجنة من هذه اللجان الجديدة اختصاصات متعددة طبقًا لشمولية المعرفة التي تتطلبها تكنولوجيا المعلومات والاتصال والتي تفرضها طبيعة البرامج الحاسوبية، فهذه البرامج تضم المصطلحات العلمية والتقنية في سياقاتها.
كما أقترح أن يستعمل هذا المجمع الموقر مكانته الأدبية المرموقة، لتشجيع المؤسسات العربية المتنوعة على ابتكار برامج حاسوبية عربية تستجيب للحاجات الوطنية وإنشاء مواقع باللغة العربية على الشبكة الدولية للمعلومات(الإنترنت)، وحث الجامعات العربية على توفير عدد متنامٍ من مناهجها الدراسية في شكل برامج تعليم إلكتروني.

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى