مقالات في اللسانيات

جمع المادة المعجمية في المعاجم القديمة والحديثة

د. عبدالعزيز بن عبدالله المهيوبي

 

سنتحدث بإيجاز عن جمع المادة المعجميّة ونبيِّن الدوافع إلى جمع المادة اللغويّة ثمّ أهم الطرق التي سلكها المعجميون في جمع مادتهم، ومصادر تلك المادة التي جمعوها.

جمع المادة المعجميّة:

لا يمكن الحديث عن جمع المادة المعجميّة بمعزل عن جمع المادة اللغويّة حيث كانت العناية الأولى بجمع المادة اللغويّة استجابة إلى ما توجبه المحافظة على القرآن الكريم وتفهم معانيه من حفظ مادته اللغويّة وما ترمي إليه من دقيق الدلالة والمغزى وصحيح المبنى والمعنى.[1]

وعلى ضوء ذلك شمّر الأوائل من أئمة اللغة فأخذوا يجمعون اللغة وكان هدفُهم الأولُ جمعَ الكلمات الغريبة وتحديد معانيها، ويعدّ (المِرْبَدُ) بالبصرة أولَ محطة رأى فيها العلماء وطلاب العربية تحقيق ذلك الهدف، وكان أهل البصرة يخرجون إلى هذه السوق وبينهم فئة من رواة اللغة وطلابها جاءوا ليدونوا ما يسمعون عن هؤلاء الأعراب[2].

وعندما أحسّ الأعراب بالحاجة إليهم أخذوا يرحلون إلى الأمصار فرادى وجماعات يعرضون بضاعتهم من اللغة، ويتلقاهم العلماء للسماع عنهم ويتنافسون في الأخذ منهم حتى أصبحت اللغة سلعة غالية يبيعها الأعراب ويشتريها الرواة.

ولما طال مُكْثُ الأعراب في الحضر لانت جلودُهم وطاعت ألسنتهم بشوائب العجمة، فلما ضعفت ثقة العلماء بالأعراب رحل العلماء والرواة إلى البادية بمدادهم وصحفهم ليسمعوا من أولئك الذين لم تتأثر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم. وممن خرج إلى البادية الكسائيّ، ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينةً حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفِظَ[3].

وهكذا ظل التواصل مستمراً بين الرواة والبادية واهتم العلماء بمشافهة الأعراب حتى وجدنا في أواخر القرن الرابع من يروي عن الأعراب كالأزهريّ، (ت370هـ)، وابن جنيّ (ت392هـ)، والجوهريّ (ت393هـ) وابن فارس (ت395هـ). ثمّ توقّف هذا التواصل مع نهاية هذا القرن حتى أصبحت الرواية عن الأعراب أنفسهم يشوبها شيء من الحذر.

وقد حدد اللغويون مادة جمعهم فيما صحّ عن العرب ضمن شروط ومعايير هي:

شرط المكان: وهو الفيصل الذي تم بمقتضاه تحديدُ مواطن الفصاحة في وسط الجزيرة العربية دون بقية أطرافها التي كانت على صلة بالأمم الأخرى، وفي بواديها دون الحواضر التي كانت تعجّ بحركة الوافدين عليها من خارج الجزيرة أو من أطرافها بقصد التجارة ونحوها.
شرط الزمان: وهو الفيصل الذي تم بمقتضاه تحديد عصور الفصاحة عند منتصف القرن الثاني الهجري بالنسبة للاحتجاج باللغة الأدبية وخاصة لغة الشعر، ونهاية القرن الرابع الهجري بالنسبة للاحتجاج باللغة الشفوية المنقولة عن الأعراب.
شرط الفصاحة وهو الشرط الذي تم بمقتضاه الحكم على فصاحة اللفظ إذا ثبتت نسبته إلى عربيّ قحّ سواء بالمشافهة أو الرواية الصحيحة وذلك العربي القحّ هو من انطبق عليه شرط الزمان والمكان السابقين[4].

وعلى ضوء هذه المعايير عُدّ كلّ ما خالف ذلك مولداً، فَقُسِّم الشعراء إلى طبقات، والقبائل إلى درجات، أعلاها قبيلة قريش.

ولكنّ اللغة لم تجمع دفعة واحدة، بل اتّخذ جمعها أشكالاً مختلفة قسّمها بعضهم إلي ثلاث مراحل هي:

المرحلة الأولى: جمع الكلمات دون ترتيب أو تنسيق فالعالِمُ يرحل إلى البادية فَيُدَون كلّ ما سمع من غير ترتيب ولا تنظيم فيجمع كلمة في المطر وكلمة في النبات وكلمة في الخيل ونحو ذلك.

المرحلة الثانية: جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد، وقد تُوِّجَتْ هذه المرحلةُ بظهور الرسائل اللغويّة التي عرفت بأسماءٍ من نحو: المطر، البئر، الإبل ونحو ذلك.

المرحلة الثالثة: وضعُ معجم يضم كلّ الكلمات على نمط خاص وترتيب معين، ويعد الخليل بن أحمد – رحمه الله – (ت170هـ) أولَ من شمّر لهذه المهمة ففتح الله على يده أعظم عمل لغويّ حيث سنّ لمن جاء بعده منهجَ التأليف المعجميّ فظهرت المعاجم اللغوية، التي من أبرزها: الجمهرة لابن دريد(ت321هـ)، والبارع للقالي (ت356هـ)، وتهذيب اللغة للأزهريّ (ت370هـ)، والمحيط للصاحب بن عباد (ت385هـ)، ومقاييس اللغة والمجمل لابن فارس(ت395هـ)، والصحاح للجوهريّ (ت400هـ)، والمحكم لابن سيده (ت458هـ)، وأساس البلاغة للزمخشريّ (ت538هـ)، والعباب للصاغانيّ (ت650هـ)، ولسان العرب لابن منظور (711هـ)، والقاموس المحيط للفيروزاباديّ (ت817هـ)، وتاج العروس للزَبيديّ (ت1205هـ).

طريقة جمع المادة المعجميّة:

أما عن طريقة جمع المادة المعجميّة فنلحظ أن القدماء اتبعوا طريقتين:

الأولى: طريقة الإحصاء التّام بغرض استقصاء المواد اللغويّة مستعملِها ومهملِها،ويعد الخليل بن أحمد – رحمه الله – أولَ من ابتدع هذا المنحى؛ إذ أدرك بعبقريته الفذة في علوم اللغة والحساب أنّ ثمّة نظاماً من شأنه حصرُ جميعِ المفردات اللغويّة، فكان له فضلُ السبق في وضع هذا النظام الذي بُني عليه كتاب العين والذي يتفق جُلّ اللغويين إن لم يكن كلُّهم على أنّه من ابتكار الخليل نفسه، ويختلفون فيما وراء ذلك.

وخلاصة هذا النظام الذي توصل إليه الخليل بن أحمد – رحمه الله – في حصر المفردات، أنّه يقوم على ثلاثة أسس هي:

1-الترتيب الصوتيّ الذي يعتمد على مخارج الأصوات.

2- تقليب المادة الواحدة ليتكون منها عدّة صور.

3-اتباع نظام الأبنية من ثنائيّ وثلاثيّ ورباعيّ وخماسيّ.

الثانية :طريقة الإحصاء النّاقص بُغْيَةَ الاقتصار على بعض مفردات اللغة واختيارها دون غيرها، وأول من نهج هذا المنهج ابن در يد في كتابه (جمهرة اللغة) حيث قال في مقدمته:(هذا كتاب جمهرة الكلام واللغة …وإنما أعرناه هذا الاسم؛ لأنّا اخترنا له الجمهور من كلام العرب وأرجأنا الوحشيّ المستنكر والله المرشد للصواب.

وممن سلك هذا المسلكَ الجوهريّ في صحاحه؛ إذ يقول في مقدمته أيضاً: (أما بعدُ فإني أودعت هذا الكتابَ ما صحّ عندي من هذه اللغة، التي شرف الله منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطاً بمعرفتها)

وخلاصة القول في ذلك أنّ من المعجميين القدماء من أخذ بمنهج الخليل بن أحمد، وطريقته في جمع مادته المعجمية، ومنهم من أخذ بمنهج ابن در يد والجوهريّ: فاقتصر على المشهور أو الصحيح، ولعلّ النّاظر في المعاجم اللغويّة القديمة يدرك من أسمائها غرض أصحابها، وطريقة جمع مادتها، فكل اسم يوحي تقريباً بذلك.

مصادر جمع المادة المعجمية:

أما مصادر جمع المادة المعجمية لدى القدماء فيمكن حصرها في مصدرين:

أحدهما: السماع والمشافهة عن العرب، وممن اعتمد هذا المصدرَ الخليل ابن أحمد في كتاب(العين) والخليل من أوائل العلماء الذين عاصروا جمع اللغة، وسمع عن الأعراب. وممن اعتمد السماع والمشافهة من المعجميين القدماء الأزهريّ في (التهذيب) فقد ذكر في مقدمته: (ولم أُوْدِعْ كتابي هذا من كلام العرب إلا ما صحّ لي سماعاً منهم، أو رواية عن ثقة….”.

الآخر: الرواية النقليّة، ويعدّ هذا الأسلوبُ من الرواية مما يميّز المعاجمَ اللغويّة بصفة عامة حيث نلحظ أن اللاحق يروي عن السابق، وقد أشار ابن دريد إلى هذه التبعيّةِ؛ إذ يقول في مقدمة كتابه(جمهرة اللغة)عن الخليل وكتاب(العين): (وكل مَنْ بعدَه له تَبَعٌ أقرّ بذلك أم جَحَد”.

وأول من اعتمد الرواية عن السابقين اعتماداً كلياً القالي (356هـ) في كتابه(البارع في اللغة) وإنّ من الطرائف التي ذكرها محققه هو أن كتاب (البارع) ما هو إلا كتابُ (العين) للخليل بن أحمد؛ لشدة التشابه بينهما.

وهكذا ظلّ أصحاب معاجم الألفاظ يعتمدون في جمع مادتهم المعجميّة على الرّواية النقليّة عن السابقين حتى رأينا ذلك واضحاً جلياً عند المتأخرين منهم خاصة كصاحب(المقاييس) وصاحب (اللسان) وصاحب (التّاج) فقد ذكر الأول أنّه اعتمد في جمع مادته المعجمية على خمسةِ كتب هي: كتاب العين للخليل، وإصلاح المنطق لابن السّكيّت، والجمهرة لابن دريد، وغريب الحديث لأبى عبيد.

[1] مقدمة الصحاح،أحمد عبد الغفور عطار ص38 [2] رواية اللغة، الشلقانيّ ص 69 [3] إنباه الرواة، للقفطيّ 2/258 [4] الكلمة دراسة لغوية ومعجمية، حلمي خليل،الهيئة المصرية العامة، فرع الإسكندرية (1980م)

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى