بحوث في اللسانيات الحاسوبية

حوسبـة التراث العربي

الأستاذ الدكتور علي حلمي موسى

مقـدمة

كان هدف اختراع الحاسوب خلال الحرب العالمية الثانية هو سد ثغرة ظهرت في الفترات التي سبقت الحرب، وهي قصور البحث العلمي الذي يتطلب حسابات طويلة ومعقدة. وقد ظهر تأثير الحاسوبِ على البحث العلمي سريعاً وعم استخدامه في الجامعات ومراكز البحوث.

ثم تبين بعد ذلك إمكان استخدام الحاسوب في مجالات أخرى غير البحث العلمي مثل الصناعة والتجارة والطب والتعليم والحرب. ويسجل التاريخ استخدام الحاسوب لأول مرة في بحوث اللغة العربية منذ ثلاثين عاماً.

واليوم يتدخل الحاسوب في إدارة الحضارة الإنسانية بكل أبعادها، فهو يصدر أحكامه للعلماء بالإباحة أو المنع، ويحدد لهم الطريقة التي يسلكونها في كثير من الأمور المصيرية.

ومع ما لهذا الجهاز الخطير من قدرة على الاستيعاب والتحكم، فإن عموده الفقري هو العقل الإنساني الذي أبدعه، فهو الذي يبرمجه ويستفيد من نتائجه، ويبني عليها ما يقتنع به من تفسيرات ومواقف.

ومن أهم الإنجازات التي تعتمد على الحاسوب استخدامه لحفظ التراث. حيث يخشى من تهالك كتب التراث القديمة بفعل الزمن. فإما أن يعاد طبع هذه الكتب أو تحفظ حاسوبياً بإحدى طرق الحفظ الإلكترونية. ونظراً لأن الحاسوب جهاز متعدد المنافع فيمكن استخدامه أيضاً في الدراسات الإحصائية للتراث العربي.

ومحاضرة اليوم تختص بعرض بعض ما تم من تطبيقات إحصائية في مجال حوسبة التراث العربي، وتشمل حوسبة معاجم الصحاح ولسان العرب وتاج العروس، ثم نتوج هذه المحاضرة بحوسبة ألفاظ القرآن الكريم.

حوسبة معجم الصحاح

كان أول من جمع اللغة هو “الخليل بن أحمد” في القرن الهجري الثاني، وهو الذي ارتاد هذا الميدان الفسيح في العربية بوضع كتاب “العين”، وقد رتبه على مخارج الحروف. وظلت مدرسة الخليل قائمة إلى أن جاء “إسماعيل بن حماد الجوهري” ووضع كتاب “تاج اللغة وصحاح العربية” الذي عرف بعد ذلك بالصحاح، فبدأ بذلك مدرسة لغوية جديدة في تنظيم المعاجم.

والجوهري من بلاد الترك ولكنه إمام في علم اللغة، ولاهتمامه باللغة العربية رحل إلى العراق ليدرس على العلماء والشيوخ هناك، وسعى إلى الحجاز حتى يقابل عرب البادية ويأخذ عنهم اللغة، ثم ذهب إلى خراسان، وفي مدينة نيسابور صنّف كتاب الصحاح في القرن الهجري الرابع.

وفيما يلي نعرض بعضاً من نتائج حوسبة الصحاح. فالجدول رقم (1) يحتوي على أعداد جذور هذا المعجم، ثم ترتيب الحروف تنازلياً من حيث كثرة ورودها في المواقع المختلفة للجذور الثلاثية. ومنه نلاحظ تفوق حرف الراء ويليه الميم ثم النون و اللام ثم الباء والعين، وينتهي الجدول بأضعف الحروف “الظاء”.

ويلي ذلك الجدول رقم (2) وبه ترتيب حروف الجذور الرباعية، ونلاحظ منه أيضاً تفوق حرف الراء ويليه اللام ثم الميم ثم الباء والعين، وينتهي الجدول بحرف الظاء وحروف اللين. ونلاحظ من الجدولين أن حرف النون يقع في المركز الثالث بعد الراء والميم في  الجذور الثلاثية، غير أنه يقع في المركز الثالث عشر في الجذور الرباعية.

أما بالنسبة لتتابع الحروف في الجذور الثلاثة ] المرجع رقم 1[ فإن أكثر تتابع في الموقعين الأول والثاني من الجذور هو تتابع حرف الراء بعد الفاء الذي يرد في اثنين وعشرين جذراً ثلاثياً ] لاحظ أن الحد الأقصى النظري لعدد هذه الجذور هو ثمانية وعشرون [ (انظر جدول رقم (7) لتحديد هذه الجذور في الصف الأفقي المقابل لحرف الراء).

أما التتابع في الموقعين الثاني والثالث ( المرجع السابق نفسه) فإن أكثرها يحدث في الجذور التي يكون عينها ولامها الحرف نفسه، وتكرر ذلك في حروف الراء واللام والميم والنون (24 جذراً لكل منها).

وبالنسبة للتتابعات الممنوعة ] المرجع السابق[ فنجد أنها: أأ، أع، أ غ، ثم ح أ، ح خ، ح ع، ح غ، ح هاء. وكذلك خ أ، خ ح، خ غ، خ هاء. وأيضاً ع أ، ع ح، ع خ، ع غ. وكذلك غ أ، غ ح، غ خ، غ ع. وأخيراً هاء ح، هاء خ، هاء غ. وجميع هذه الحروف هي حرف الحلق.

أما تتابعات الشفة فنجد أن تتابع ب ف ممنوع، وكذلك تتابعات ف ب، م ب، م ف.

ويوضح  جدول رقم (3) ترتيب ثنائيات الحروف من حيث النوع في جميع جذور المعجم. وقد يتبادر إلى الذهن أن السبب في تفوق حروف الفم هو كثرتها ولكن هذا غير صحيح لأننا لو قسمنا هذه القيم على أعداد الحروف المكونة لكل مجموعة لظل الترتيب على ما هو عليه.

أما إحصاء ثنائيات الحروف في جميع جذور الصحاح فيظهر في ثمانية وعشرين جدول مثل الجدول رقم (4) الذي يحتوي على الثنائيات التي تبدأ أو تنتهي بحرف الدال، أو الجدول رقم (5) وبه ثنائيات حرف السين.

وقد تم ترتيب جميع الجذور الثلاثية في معجم الصحاح في ثمانية وعشرين جدولاً، مثل الجدول رقم (6) الذي يحتوى على الجذور التي تبدأ بحرف العين، أو الجدول رقم (7) وبه الجذور التي تبدأ بحرف الفاء. ونظراً لأن المعجم يضع الجذور المنتهية بحرفي الواو والياء (ألف المد) في باب واحد فإن هذين الجدولين يحتوى كل منهما على سبعمئة وست وخمسين خانة  تسمح بوجود جذر من الوجهة النظرية وهذا العدد هو حاصل ضرب 28 في 27. غير أننا نلاحظ وجود مئة وتسعين جذراً يبدأ بحرف الفاء بنسبة خمسة وعشرين بالمائة من الجذور النظرية، ووجود مئتين وأربعة وخمسين جذراً يبدأ بحرف العين بنسبة ثلاثة وثلاثين بالمائة من الجذور النظرية.

ومن المعروف أن الحروف العربية تنقسم إلى حروف شديدة وهي (الألف، الباء، الثاء، الجيم، الدال، الطاء، القاف، الكاف) وحروف مائعة وهي (الراء، العين، اللام، الميم، النون) وباقي الحروف هي الرخوة. ويبين جدول رقم (8) مرات اشتراك هذه الحروف في جميع جذور المعجم ومنه يظهر أن معدل ورود الأحرف المائعة هو ألف وخمس وثمانون ومعدل ورود الأحرف الشديدة هو ستمئة وست وثلاثون ومعدل ورود الحروف الرخوة هو أربعمئة وثلاث وخمسون.

أما الجدول رقم (9) فيظهر به الترتيب التنازلي لاشتراك الحروف المجهورة والمهموسة في جميع جذور المعجم وهي بنسبة 70% للمجهورة و 30% للمهموسة.

القلب المكاني:

بعد ظهور هذا العمل، كتب المغفور له الدكتور إبراهيم أنيس عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة في تصديره لمجلة مجمع اللغة العربية في شهر مارس من عام 1972 مستعرضاً القلب المكاني للكلمة في اللغة العربية بقوله:

“قنع اللغويون من العرب بالإشارة السريعة إلى هذه الظاهرة ودون محاولة لتعليلها أو تفسيرها مقررين أنها من سنن العرب، ثم يسوقون لها مجموعة من الأمثلة لعل من أشهرها: (جذب، التي تقلب جبذ)،(يئس، التي تقلب أيس)،       ( لأك، التي تقلب ألك)، (اضمحل، التي تقلب امضحل).

ثم يتعرض الدكتور أنيس إلى تفسيرات القدماء لهذه الظاهرة وتفسير العلماء على أنه في كل مثل تكون إحدى الصورتين أصلاً والأخرى فرع لها، ثم تشتهر بعض الفروع ويشيع استعمالها. ويقارن بين اللغة العربية واللغات الأجنبية في وجود تلك الظاهرة اللغوية. وينهي بحثه بما يأتي:

“وقد تبين لنا أن السر الحقيقي في معظم سلسلة القلب المكاني يرجع إلى اختلاف نسبة شيوع السلاسل الصوتية في كلمات اللغات، وربما يكون ذلك أوضح في اللغات السامية ومنها العربية لأنها تعتمد في كلماتها على الجذور الأصلية وعليه فمعظم الصور المروية للقلب المكاني في الكلمات العربية تعزى أولاً وقبل كل شيء إلى اختلاف نسبة شيوع السلاسل الصوتية في اللغة العربية”.

ولتحقيق ما كتبه الدكتور أنيس نجد أن السلاسل الصوتية في بداية كل جذر في الأمثلة التي ساقها لها نسب الشيوع الأتية:

جب= 11، جذ=8، يئ=1، أي=10، لأ=2، أل=11، إض=4، إم=11 كما أن السلاسل الصوتية في المقاطع التالية من نفس الأمثلة لها نسب الشيوع  الآتية:

بذ=4، ذب=5، ئس=7، يس=15، أك=1، لك=8، ضم=7، مض=4 وبذلك تصبح قوة الجذور في تلك الأمثلة أي مجموع السلسلتين الصوتيتين كالآتي:

جذب= 8+5=13

يئس= 1+7=8

لأك= 2-1=3

اضمحل= 4+7=11

جبذ= 11+4=15.

أيس= 10+15= 25.

ألك= 11+8=19.

امضحل= 11+4=15.

وهذه النتائج تثبت أن نسب الشيوع هي السبب في القلب المكاني.

حوسبة معجم لسان العرب

قام ابن منظور بوضع معجم لسان العرب في الربع الأخير من القرن الهجري السابع، وقد اعتمد على عدد من المعاجم التي سبقته، واتبع طريقة “الجوهري” في التصنيف، وقد وضع ابن منظور مقدمة لموسوعته اللغوية أشار فيها إلى خصائص الحروف من حيث كثرة شيوعها، فقسم الحروف إلى ثلاثة أقسام: قسم به الحروف كثيرة التردد وعددها سبعة وهي حروف الهمزة واللام والميم والهاء والواو والياء والنون. وقسم ثان به الحروف متوسطة التردد وعددها أحد عشر وهي حروف الراء والعين والفاء والتاء والباء والكاف والدال و السين والقاف والحاء والجيم. وقسم ثالث به الحروف قليلة التردد وعددها عشرة وهي حروف الظاء والغين والطاء والزاي والثاء والخاء والضاد والشين والصاد والذال.

وإذ رتبنا حروف جذور معجم لسان العرب إلى ثلاثة أقسام مناظرة لما قام به ابن منظور لحصلنا على جدول يمكن مقارنته بنتائجه كما يظهر في جدول رقم (10). ومنه يتضح إن تقسيم ابن منظور مخالف لنتائج الإحصاءات الجديدة. ومن المفارقات الواضحة ما يأتي:

  • حرف الراء وهو أقوى حروف جذور اللغة العربية، وضعه ابن منظور في الفئة الثانية.
  • حرف الهمزة وضعه ابن منظور في الفئة الأولى بينما تضعه إحصاءات الحاسوب في الفئة الثالثة.
  • الحروف التي ظهرت في غير فئتها هي: الهمزة، الباء، التاء، الخاء، الراء، الشين، الطاء، العين، القاف، الهاء، الواو، الياء.  ويحتوى جدول رقم (10) أيضاً على أعداد الجذور المختلفة في المعاجم الثلاثة.

ولمقارنة الجذور الثلاثة في معجمي الصحاح ولسان العرب نشاهد الجداول من رقم (11) حتى رقم (16) للجذور الثلاثية التي تبدأ بحروف الهمزة والباء والدال والزاي والكاف والميم.

وبمقارنة أعداد الجذور في المعجمين قد يتبادر إلى الذهن أن جميع جذور الصحاح موجودة في لسان العرب. ولكن ذلك عكس الواقع فقد ظهر وجود جذور ثلاثية في معجم الصحاح غير موجودة في لسان العرب وهي:         (بخد- دهج- زكل- سغغ- صخم- صوأ- صوخ- ضبل- فعع- قنر- ككب- كهه- ليه- مغغ- ميم- نهه- هرل- ورغ- ووه). هذه الجذور عددها تسعة عشر جذراً أهملها ابن منظور، ولكن اتضح أن له أسبابه:

فالجذر “بخد” يرد في معجم الصحاح ثلاثياً يعتبره ابن منظور رباعياً “بخند”. كما أن الجذر  “دهج” يرد في الصحاح ولكنه يرد في لسان العرب على صورة الرباعي “دهمج”. والشيء نفسه بالنسبة للجذر “زكل” في الصحاح ويضعه ابن منظور “زنكل”. أما الجذر “سغغ” في الصحاح فإنه يرد “سغسغ” في اللسان. والجذر “صخم” للجوهري يضعه ابن منظور “صطخم” والجذر “صوأ” في الصحاح يظهر “صيأ” في لسان العرب، ومثله “صوخ، صيخ”. والجذر “ضبل” في الصحاح يرد “ضأبل” في اللسان. والجذر “قنر” في الصحاح يظهر “قنور” في لسان العرب. “كوكب” في اللسان ترد على الصورة الثلاثية “ككب” في الصحاح. والجذر “ليه” في الصحاح يقابله “لوه” في لسان العرب. والجذر “ميم” للجوهري يرد “موم” عند ابن منظور.

وتسهيلاً على الباحثين عرضنا جداول مشابهة للسابقة تحتوى على الجذور التي تثنى بكل حرف من الحروف مثل جدول رقم (17) للجذور الثلاثية التي تثنى بحرف الجيم. وأخرى للجذور التي تنتهي بكل حرف من الحروف مثل جدول رقم (18) للجذور التي تنتهي بحرف الميم.

ولدراسة تتابع الحروف في جميع جذور لسان العرب نعرض مرات تتابع أحرف الشفة وكذلك أحرف الحلق ثم أحرف مجموعة حروف “الجيم والغين والقاف والكاف” وأيضاً مجموعة حروف “الذال والزاي والسين والصاد”. ويجمع هذه  المجموعات الجدول رقم (19).

ويوضح هذا الجدول أن هذه المجموعات تشترك كل منها في خاصية ندرة التتابع فيما عدا تتابع الحرف مع نفسه (باستثناء حرف الهمزة الذي لا يتتابع مع نفسه). ومن الواضح أن كل مجموعة تشترك في المخرج أو تقرب منه.

حوسبة معجم تاج العروس

من الحقائق المقررة أن المعجم العربي الذي بدأ بكتاب العين كان يزداد مع توالي المعاجم بعده حجماً، بما يضيفه المؤلفون من الروايات والشواهد والمفردات التي انتهت إليهم ولم يكن قد أدركها سابقوهم.

وقد رصد الجوهري ما ثبت لديه من أصول اللغة بشروط معينة، على حين استخدم ابن منظور خمسة مصادر سابقة عليه. أما “الزبيدي” مؤلف معجم تاج العروس فقد بدأ عمله لشرح القاموس المحيط للفيروزبادي ثم انتهى إلى وضع المعجم مستخدماً مئة وستة عشر مصدراً وانتهى منه في نهاية القرن الهجري الثاني عشر.

وبمقارنة أعداد الجذور في المعاجم الثلاثة نلاحظ  تميز معجم تاج العروس بإضافات كبيرة من الجذور. وسوف نكتفي بعرض الجذور التي تميز بها معجم تاج العروس.

أولاً: الجذور الثلاثية المكونة من الحرف نفسه في المواقع الثلاثة وعددها أحد عشر، وهي “بب” و”جج” و”دد” و”زز” و”سس” و”صص” و”قق” و”كك” و”نن” و”هه” و”وو”. واحد منها فقط “بب” ورد في المعاجم الثلاثة، بينما ورد “قق” و”نن” في لسان العرب أيضاً.

ثانياً: الجذور الرباعية التي يكون فيها الحرف الأول والثالث من جنس واحد والثاني والرابع من جنس آخر، وهو ما يطلق عليه “مضاعف الرباعي:. ويعرض الجدول رقم (20) هذه الجذور التي يبلغ عددها أربعمئة وعشرين جذراً. وبفحص هذا الجدول نجد أن أكثر الحروف اشتراكاً في هذه الجذور هو حرف اللام حيث يرد في خمسة وأربعين جذراً يليه أحرف الباء والعين والميم وكل منها يرد في اثنين وأربعين جذراً.

ثالثاً: الجذور  الثلاثية المضعفة التي يكون فيها الحرف الثاني والثالث من الجنس نفسه مثل “ذلل”. وتظهر جميع هذه الجذور في جدول رقم (21) والتي بلغ عددها خمسمئة وواحد وأربعين جذراً، أكثرها يبدأ بحرف الباء (ستة وعشرون) وينتهي بحرف النون (سبعة وعشرون).

 حوسبة ألفاظ القرآن الكريم

لقد سجل التاريخ اهتمام العلماء والحكام العرب بإحصاءات القرآن الكريم، فقد كان الحجاج بن يوسف هو أول من دعا العلماء لعد حروف القرآن الكريم، وطلب أن يقوم كل عامل بالعد منفصلاً عن غيره. ويذكر الفيروزابادي في كتابه “بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز” ثمانية روايات مختلفة لعدد حروف القرآن تتراوح بين 300023 حرفاً و 373250 حرفاً. وتقديري أن إصرار الحجاج على عدم اتصال العلماء ببعضهم أدى إلى اختلاف مناهج العد. كما يذكر القرطبي في مقدمة تفسيره ثلاث روايات أخرى لا تتفق مع روايات الفيروزابادي.

أما إحصاء القرن العشرين فقد اعتمد على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم كمصدر المعلومات التي شحنت في ذاكرة الحاسوب لمعظم تطبيقات الحوسبة، وكان القرآن الكريم نفسه المعين الأكبر عند التحقق من بعض معلومات المعجم. ويحتوي المعجم على جميع الأسماء والأفعال، ولم يرد به من الحروف والأدوات سوى “لعل”، و”مع”، و”كي” و”ذو” و”ها”. كما أن المعجم قد خلا من الأسماء الموصولة فيما عدا “اللذين، اللذان، اللائي، اللاتي”. وتضمن المعجم أسماء الإشارة فيما عد “ذلك” ومشتقاتها.

ويوضح جدول رقم (22) تصنيف ألفاظ القرآن إلى ألفاظ من أصل ثلاثي وأخرى من أصل غير ثلاثي بالإضافة إلى أسماء الأعلام. ويظهر من هذا الجدول أن ألفاظ القرآن المشتقة من أصول ثلاثية يبلغ عددها 50816 بينما يبلغ عدد الألفاظ المشتقة من أصول غير ثلاثية 90 وعدد مرات ورود أسماء الأعلام 987. بذلك يصبح عدد ألفاظ القرآن 51884.

ويبلغ عدد جذور القرآن الثلاثية 1620 جذراً، يتراوح ورودها بين مرة واحدة و2851 مرة، وعدد جذور القرآن غير الثلاثية 39 جذراً يتراوح ورودها بين مرة واحدة وثماني مرات، وعدد أسماء الأعلام 63 يتراوح ورودها بين مرة واحدة ومئة وست وثلاثين مرة.

وبمقارنة عدد جذور القرآن الثلاثية بجذور معجم الصحاح الثلاثية التي يبلغ عددها أربعة آلاف وثمانمائة وأربعة عشر جذراً نجد أن نسبة جذور القرآن إلى جذور الصحاح هي أربعة وثلاثون بالمائة، وهذه نسبة عالية جداً، لأن ذلك معناه أن القرآن الكريم يحتوى على ثلث جذور اللغة العربية الثلاثية المدونة في معجم الصحاح. وهذه النسبة إعجاز كبير ينفرد به كتاب الله.

ويوضح جدول رقم (23) مقارنة بين أعداد الجذور الثلاثية التي تبدأ بكل حرف من الحروف الهجائية في القرآن الكريم وفي معجم الصحاح، وكذلك نسبته المئوية. ومن هذا الجدول نلاحظ أن جذور القرآن الثلاثية التي تبدأ بحرف السين لها أعلى نسبة مئوية وهي سبع وأربعون بالمائة من جذور الصحاح، تليها الجذور التي تبدأ بحرف الصاد (خمس وأربعون بالمائة) ثم ما تبدأ بحرف الحاء ( واحد وأربعون بالمائة).

وتحتوي بيانات القرآن الكريم إعجازاً بلاغياً فريداً، حيث يوجد ثلاثمائة وواحد وسبعون جذراً ثلاثياً وردت مرة واحدة في القرآن الكريم نسبتها ثلاثة وعشرون بالمائة من الجذور. ويحتوي جدول رقم(24) على أعداد الجذور الثلاثية التي وردت مرة واحدة فقط في القرآن الكريم مع ترتيب السور ترتيباً تاريخياً.

إن هذه الظاهرة جديرة بإلقاء الضوء عليها. والآن دعونا نتأمل هذه الجذور ولنبدأ بأول ما نزل من القرآن الكريم. فالآية الخامسة عشرة من سورة العلق: بسم الله الرحمن الرحيم “كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية” بها الجذر سفع ومعناه أخذ، وهذا الجذر أو أي من مشتقاته لم يرد في أية سورة أخرى من سور القرآن الكريم. والآية الثامنة عشرة من نفس السورة ” سندع الزبانية” تحتوي على الجذر “زبن” بمعنى دفع الذي لم يرد ذكره أو أي من مشتقاته في أية سورة أخرى.

وإذا انتقلنا إلى سورة القلم فسوف نجد بها ثلاثية فريدة، فالآية الحادية عشرة من السورة “هماز مشاء بنميم” بها الجذر نمم، والآية الثالثة عشرة “عتل بعد ذلك زنيم” بها الجذر “زنم”، ثم الآية الخامسة والعشرين “وغدوا على حرد قادرين” بها الجذر “حرد. هذه الجذور الثلاثة لم ترد في أية سورة أخرى من سور القرآن سواء اللفظ  نفسه أو أي من مشتقاته.

ثم تتوالى سور القرآن طبقاً للترتيب التاريخي لنزول الوحي ومعظمها تحتوي على جذور لم ترد في باقي سور القرآن. فسورة المزمل بها الجذور “زمل، غصص، كثب، هيل”. وسورة المدثر بها جذران لم يردا إلا في هذه السورة وهما “دثر، قسر”.

وتحتوي سورة البقرة على أكبر عدد من الجذور الثلاثية التي وردت فقط في هذه السورة وتليها سورتا الحج والأعراف ثم سورة طه ثم سورة يوسف.

وإذا تأملنا آخر سورة طويلة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهي سورة التوبة نجد القيمة البلاغية نفسها بل أعظم القيم البلاغية في احتواء هذه السورة على تسعة جذور لم ترد قبل ذلك (تاريخياً) وهي جذور “كسد، وطن، نجس، ضهأ، كوي، جبه، ثبط، جمح، جرف”. فالآية الرابعة والعشرون من سورة التوبة بها “… وتجارة تخشون كسادها…”، والآية الخامسة والعشرون “لقد نصركم الله في مواطن كثيرة…”، والآية الثامنة والعشرون “… إنما المشركون نجس…”، والآية الثلاثون “… يضاهئون قول الذين كفروا…”، والآية الخامسة والثلاثون “يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم…”، والآية السادسة والأربعون “… ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم…”، والآية السابعة والخمسون “… لولوا إليه وهم يجمحون”، والآية التاسعة بعد المائة “… أم من أسس بنيانه على شفا جرف…”.

هذه الجذور التسعة لم ترد قبل ذلك في جميع سور القرآن، ووردت في سورة التوبة قرب انتهاء نزول الوحي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فهل هناك إعجاز أعظم من ذلك؟

كما يوجد من الألفاظ العربية كثيرة الاستعمال ما ورد منها في القرآن العظيم مرة واحدة فقط، نذكر بعضاً منها على سبيل المثال فيما يأتي:

 

بحث: “فبعث الله غرابً يبحث في الأرض…” المائدة 31
بلع: “وقيل يا أرض ابلعي ماءك…” هود 44
أتقن: “… صنع الله الذي أتقن كل شيء…” النمل 88
جر: “وأخذ برأس أخيه يجره إليه …” الأعراف 150
جلس: “… إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس…” المجادلة 11
خلع: “إني أنا ربك فاخلع نعليك…” طه 12
ربح: “… فما ربح تجارتهم…” البقرة 16
سكت: “… ولما سكت عن موسى الغضب…” الأعراف 154

الترتيب التنازلي للجذور الثلاثية:

يبين الجدول رقم (25) الترتيب التنازلي للألفاظ الثلاثية أو مشتقاتها، ونلاحظ على رأس القائمة الجذر “إله” حيث يرد لفظ الجلالة ألفين وستمائة وتسع وتسعين مرة. ثم يأتي في المرتبة الثانية الجذر “قال” ومشتقاته ثم “كان” ومشتقاته. وفي المرتبة الرابعة يرد “رب” ومشتقاته، ويليه “الإيمان” ثم “العلم”. وفي هذه دلالة واضحة على أن الإيمان يسبق العلم وليس العكس.

إن القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء، ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن. وفي ذلك يقول الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي رحمة الله: ليس ثمة تفاوت بين العلم والدين، فإن الحق تبارك وتعالى هو مصدر الاثنين، وإذا لوحظ أن هناك اختلافاً فليس بين علم ودين ولكن بين دين وجهل أخذ سمة العلم.

أسماء الله الحسنى

يبين الجدول رقم (26) مرت ورود أسماء الله الحسنى في القرآن الكريم، وبعض هذه الألفاظ لم ترد باللفظ وإنما وردت بالمعنى، كما أن هناك بعض أسماء الله قد وردت في القرآن ولكنها ليست ضمن الأسماء الحسنى المتداولة وهي كالآتي:

  • الأكرم: نزل في أول سورة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم:”اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم”.
  • الأعلى: نزل في سورتي الأعلى والليل:”سبح اسم ربك الأعلى.” وأيضاً:”إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى”.
  • الشاكر: نزل في سورتي البقرة والنساء:” إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم.”

وأيضاً: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليما”.

  • الخلاق: نزل في سورتي الحجر ويس:” إن ربك هو الخلاق العليم.” وأيضاً” أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم”.
  • علام الغيوب: نزل في سورة المائدة والتوبة وسبأ.
  • أحسن الخالقين: نزل في سورتي المؤمنون والصافات.
  • أحكم الحاكمين: نزل في سورتي هود والتين.
  • أرحم الراحمين: نزل في سور الأعراف ويوسف والأنبياء.
  • خير الراحمين: نزل في سورة المؤمنون.
  • خير الرازقين: نزل في سور المائدة والحج والمؤمنون وسبأ والجمعة.
  • خير الفاتحين: نزل في سورة الأعراف.
  • خير الغافرين: نزل في سورة الأعراف.

أركان الإسلام

لقد وردت أركان الإسلام الخمسة بنفس ترتيبها، فقد ورد لفظ الجلالة “الله” ألفين وستمائة وتسع وتسعين مرة، وورد لفظ “الصلاة” ومشتقاته تسعاً وتسعين مرة، وورد لفظ “الزكاة” ومشتقاته تسعاً وخمسين مرة، ووردت لفظ “الصوم” ومشتقاته أربع عشرة مرة، وورد لفظ “الحج” ومشتقاته اثنتي عشرة مرة.

العلاقة بين الصوامت والحركات

العلاقة بين الصوامت والحركات في اللغة العربية من الوجهة الإحصائية وما ينتج عنها ولم تكن محل دراسة من قبل رغم أهميتها القصوى في دراسة بنية اللغة. والأصوات العربية معروفة، والحركات: ثلاث قصيرة: الفتحة والضمة والكسرة وثلاث طويلة: الألف والواو والياء، ثم السكون. والحرف المشكل بشدة يعتبر حرفين أولهما ساكن وثانيهما مشكل بالحركة المصاحبة للشدة.

والدراسة التي نعرضها اليوم تمت على عينتين من القرآن الكريم إحداهما مكية وهي سورة الأعراف وبعض قصار السور والأخرى مدنية وهي سورة البقرة. ونظراً لأن الدراسة تتم على القرآن كما نسمعه  وليس كما نكتبه فقد اتبعت الطريقة الصوتية كما تظهر سورة الفاتحة قبل جدول رقم
(27)، حيث نتبع طريقة قراءة حفص مع الوقوف على رؤوس الآيات.

ويوضح الجدول رقم (27) تردد الحركات في العينتين مع حساب النسب المئوية لكي تسهل المقارنة نظراً لاختلاف عدد  الأصوات والحركات في كل عينة. ويوضح الجدولان التاليان (28، 29) عدد الحركات المصاحبة لكل صوت.

ومن الجداول الثلاثة يمكننا استنباط النتائج الآتية:

  • يوجد تقارب واضح في النسب المئوية للحركات في كل من العينتين المكية والمدنية.
  • تستخدم الفتحة أكثر من غيرها من  الحركات في تشكيل لغة القرآن بنسبة 44% من جميع الحركات (بدون السكون).
  • تلي الفتحة في قوة التردد الكسرة بنسبة 18% ثم الألف بنسبة 15% وتليها الضمة بنسبة 14% وفي آخر القائمة تأتي كل من الواو بنسبة 5% والياء بنسبة 4%.
  • على الرغم من أن الكسرة ترد أكثر من الضمة، إلا أن الكسرة الطويلة (الياء) ترد أقل من الضمة الطويلة (الواو).
  • يتشكل ثلاثة وعشرون حرفاً بالفتحة أكثر من الحركات الأخرى، وهذه النتيجة تتفق مع شيوع الفتحة، وباقي الأحرف الخمسة تشكل بحركات أخرى أكثر من الفتحة، وهذه الأحرف هي الباء والذل والظاء والكاف والهاء. فحرف الباء يشكل بالكسرة أكثر من غيرها وتشكل كل من الظاء والكاف والهاء بالضمة أكثر من غيرها، أما حرف الذال فتؤثر عليه حركة الباء أكثر من باقي الحركات. وفي العينة المكية فقط يشكل حرف الميم بالكسرة أكثر من غيرها ويشكل حرف الصاد بالألف أكثر من  غيرها.
  • حركة الواو لا تؤثر على حرف الخاء في العينتين، ولا تؤثر على حرف الزاي في العينة المكية ولا على حرف الشين في العينة المدنية.
  • أكثر من ربع الأصوات تؤثر عليها السكون، وذلك بسبب وضع السكون على الحرف الأخير من الآية.
  • تسعة وخمسون بالمائة من تردد السكون يؤثر على ثلاثة حروف فقط هي اللام والميم والنون.

خاتمـة

إن التراث العربي هو تاريخ هذه الأمة العربية المجيدة، ودور العلماء هو دراسة هذا التراث وتحقيقه حتى يمكن للأجيال المقبلة الاستفادة منه. وحوسبة التراث العربي هي أحد أعمدة هذه الدراسات التي يجب أن يتصدى لها المتخصصون من أبناء هذه الأمة.. 

المراجع

  • “دراسة إحصائية لجذور معجم الصحاح باستخدام الكمبيوتر “-أ.د. علي حلمي موسى- مطبوعات جامعة الكويت رقم 33 عام 1973-241 صفحة. أعيد طبع هذا الكتاب في الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1978 تحت رقم 2469/1979- ISBN
  • “إحصائيات جذور معجم لسان العرب باستخدام الكمبيوتر”- أ.د. علي حلمي موسى- مطبوعات جامعة الكويت رقم 19 عام 1972-267 صفحة.
  • “دراسة إحصائية لجذور معجم تاج العروس باستخدام الكمبيوتر” –أ.د. علي حلمي موسى ود. عبد الصبور شاهين- مطبوعات جامعة الكويت رقم 32 عام 1973-364 صفحة.
  • “المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم”- أ.د. محمد فؤاد عبد الباقي        – الناشر دار ومطابع الشعب- القاهرة.
  • “ماذا قال العقل الإلكتروني عن القرآن”- أ.د. علي حلمي موسى- مجلة الدوحة، أغسطس 1977 ص 98-111.
  • ” Computer Application to Arabic Words in the Holy Koran” Ali Helmy Moussa, Progress in Cybernetics and Systems Research, Vienna, vol. 5(1979) pp. 482-490.
  • “استخدام الأجهزة الحاسبة الإلكترونية لدراسة ألفاظ القرآن الكريم” أ.د. علي حلمي موسى- مجلة عالم الفكر –المجلد 12- يناير 1982 ص        153 -194.
  • “Computer Application to the Holy Koran- Consonant- Vowel Relations”, Prof Ali Helmy Moussa, progress in Cybernetics and Systems Research, Viena, Vol. 11 (1982), 527-530.

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى