بحوث في اللسانيات الحاسوبية

اللغة العربية وتحديات العولمة

الدكتور نبيل علي

تستهدف هذه الدراسة تأكيد حاجتنا الماسة لنهضة لغوية شاملة تلبية لمطالب العصر الذي نعيشه. لقد باتت إشكالية اللغة من الشمولية بحيث يستحيل تناولها انطلاقا من منظور التخصص الضيف، ومن الخطورة بحيث يمكن إرجاؤها دون إستراتيجية واضحة للإصلاح اللغوي الشامل، وذلك في إطار خطط قومية أكثر شمولاً لإعداد مجتمعاتنا لدخول عصر المعلومات، وهو العصر الذي للغة فيه دور محوري وأساسي على جميع المستويات: المعرفية والتربوية والثقافية بل والسياسية والاقتصادية أيضاً.

ولسنا بحاجة هنا كي نؤكد أهمية اللغة من حيث دورها في ربط أواصر الكيان المجتمعي، وتشكيل وعي الجماعة الناطقة بها، وكذلك بصفتها مرآة لمعرفة ذاتنا وأهم ما يميز طبيعتنا البشرية وأكثر الوسائل حسماً في فهم هذه الطبيعة وسبر أغوراها.

يتعاظم باطراد دور اللغة في صياغة شكل المجتمع الحديث سواء من داخله أو من خارجه، ويقصد بـ “الداخل” هنا أنماط وحصاد نتاجه المعرفي والثقافي والفني، وكذلك الإنتاجية الشاملة لأفراده ومؤسساته والعلاقات التي تربط فيما بينهم وفيما بينها وفيما بينهم وبينها، أما ما نقصده بـ “الخارج” فهو العلاقات التي تربط المجتمع بغيره والعوامل التي تحدد ثقله على الخريطة العالمية، ودعنا نؤكد في البداية أن نجاحنا في اللحاق بركب الحضارة المعاصرة رهن بنجاحنا في أن نؤمن للغتنا العظيمة شروط عضويتها في “نادي تعدد اللغات العالمي” الذي أخرجته إلى حيز الوجود النزعة المتنامية نحو ” العولمة” التي نشهدها حالياً.

من منظور هذه الدراسة، تعني حركة العولمة إسقاط الحواجز اللغوية كشرط أساسي لدمج بلدان العالم وثقافاته المختلفة في كيان عولمي يتسم بالشفافية اللغوية لتنساب من خلالها المعلومات ويتفاعل من خلالها الأفراد والجماعات والمؤسسات، ولا يمكن للغتنا العربية أن تلحق بهذا الركب إلا بتوافر البنى الأساسية اللغوية التي تؤهلها للتفاعل اللغوي الديناميكي مع لغات العالم الأخرى.

يمكن تلخيص دوافع الدراسة في نقاط أربع هي:

1ـ للغة في عصر المعلومات واقتصاد المعرفة موقع الصدارة، وهو ما يفسر، من جانب، لماذا تحتفي معظم الأمم حالياً بلغاتها القومية وتعيد النظر إليها من الصفر، وتقيم معاهد البحوث المتخصصة لدراسة علاقة هذه اللغات بتكنولوجيا المعلومات، ومن جانب آخر يبرز هذا الوضع الجديد مدى حدة أزمتنا اللغوية: تنظيراً وتعليماً، معجماً ومصطلحاً. ولا شك أن أزمتنا تلك سوف تتفاقم تحت ضغط المطالب الملحة لعصر المعلومات واتساع الفجوة اللغوية التي تفصل بيننا وبين العالم المتقدم كناتج فرعي لاتساع الفجوة التكنولوجية ـ المعلوماتية.

2ـ في مقابل حدة التأزم تلك، هناك فرصة نادرة لتعويض تخلفنا اللغوي إذا ما نجحنا في استغلال الإمكانات الهائلة التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات في المجال اللغوي سواء على المستوى النظري أو العملي، وقبل أن يتسرع أحد في اتهامنا بأننا نتهم لغتنا العربية العظيمة بالتخلف والعجز عن تلبية مطالب العصر، دعني أؤكد أن ما نعنيه هنا هو إخضاع تكنولوجيا المعلومات لخدمة اللغة العربية وليس العكس، بأن نخضع هذه اللغة قسراً لضغوط هذه التكنولوجيا الساحقة، وهو ما يذكرنا بنظرة البعض الضيقة عندما طالبوا في الماضي بتغيير كتابة العربية تلبية لمطالب تكنولوجيا الطباعة.

3ـ مازال الطرح السائد لإشكالية اللغة قاصراً تائها بين الأكلشيهات والهامشيات، وبين فورة الحمية القومية وضيق النظرة لعدم إدراك الجوانب المختلفة لهذه القضية المتشعبة، وأكاد أزعم أن عدتنا المعرفية أصبحت دون مطالب الحد الأدنى لتناول هذه الإشكالية المحورية، وهو الوضع الذي أدى بدوره إلى ما يشبه القطيعة المعرفية التي تحجب عنا مناهل المعرفة اللغوية الحديثة وقد تجاوزت هذه المعرفة حدود السرد إلى الصياغات الرسمية المنضبطة مستخدمة أساليب الرياضيات والمنطق والإحصاء والطبيعة وعلم النفس وعلم الاجتماع وأخيراً علم وظائف الأعضاء وعلوم الكمبيوتر وهندسته.

4ـ وأخيرا وليس آخراً، فتقاعسنا في التصدي لهذه الأزمة ـ إن استمر ـ ينذر بانزواء اللغة العربية إلى مصاف الدرجة الثانية حيث سيعوزها العديد من عناصر البنية الأساسية التي تؤهلها لعضوية “نادي تعدد اللغات العالمي” وتمنحها القدرة، وقدرة ثقافتها بالتالي، على الاحتكاك اللغوي الذي تشير جميع الدلائل إلى تزايد حدته واتساع نطاقه.

أولاً: الأبعاد اللغوية لتحديات عصر المعلومات

تتفق جميع الآراء على أن ثورة المعلومات وانفجار المعرفة التي نعيشها حالياً تنطوي على تحديات تربوية وثقافية وعلمية وتكنولوجية واقتصادية وسياسية، ولا شك أن هناك تداخلاً شديداً بين هذه التحديات يصعب معه رسم الحدود الفاصلة وهي بلا شك في حاجة إلى دراسات جادة ومستفيضة يتعذر من دونها وضع إستراتيجية عربية لاستيعاب المعلومات.

إن كلاً من هذه التحديات ينطوي يدوره على تحد لغوي، ورأيت أن أضع كلاً من هذه التحديات في مجموعة من العناصر المحددة مقرونة بأبعادها اللغوية.

يزخر العالم بآلاف اللغات، وكل لغة تحمل العالم في جوفها. واللغة هي الهواء الذي نتنفسه، وهي  حولنا تحيطنا من كل حدب وصوب، فهي وسيلتنا لإدراك العالم، وواسطتنا التي تحدد المسافة بيننا وبين واقعنا. وأداة تعاملنا مع هذا الواقع، التي نحيل بها المحسوس إلى المجرد، ونجسد بها المجرد في هيئة المحسوس إنها الجسر الواصل بين خصوصية الذات وعمومية الموضوع؛ فهي التي تترجم ما في ضمائرنا من معان ـ كما يقول ابن خلدون في مقدمته ـ لتستحيل إلى أدوات تشكل الحياة، وتوجه أداء المجتمع وسلوك أفراده وجماعاته ومؤسساته. واللغة هي قدر الإنسان الاجتماعي، فكما تكشف عن طبقته وجذور نشأته، تكشف ـ أيضاً ـ عن عقليته وقدراته وميوله الفكرية. وكما أن اللغة ظاهرة وشائعة، فهي ـ بالقدر نفسه ـ دفينة ومستترة، غائرة في ثنايا النسيج الاجتماعي ومتاهة العقل البشري، تمارس سلطتها علينا من خلال أياديها الخفية، تعمل عملها في طبقات اللاوعي على اختلاف مستوياته: من اللاوعي الفردي النفسي إلى اللاوعي الجمعي التراثي والسياسي.

ونظراً إلى شيوعها وشموليتها، فهي مسؤولية الجميع: مسؤولية المجمع والجامع، ومؤسسات التربية وأجهزة الإعلام والمنظمات الثقافية، مسؤولية وجهاء النخبة وبسطاء العامة، مسؤولية الشاعر والعامل والناشر والكاتب والقارئ والمدرس والطالب. إن اللغة هي الأم التي ترعى كل ناطق بها وكأنه طفلها الوحيد والأثير، تزهو وتنمو إن تمرد عليها شعراؤها، ولا تضيق ذرعاً بصرامة لغة علمائها، وتغفر للعامة تجاوزها، ولا تحرم النخبة من تميزها.

يقول أهل النسبية اللغوية: “لغتي هي عالمي، وحدود لغتي هي حدود عالمي”، وهو نفسه ذاك العالم الذي انتزعه محمود درويش ممن أرادوا أن يسلبوه إياه، فارضين عليه أن يفارقه، حاملاً معه “لغته” تحمل معها “عالمه”. لقد قرر شاعر الأرض السليبة أن يكون “وطنه هو حقيبة سفره”، وليس هنـاك خير من اللغة زاداً لسفره هذا، فاللغة هي الذات وهي الهوية، وهي أداتنا لكي نصنع من المجتمع واقعاً، كما يقول بيتر برجر. وثقافة كل أمة كامنة في لغتها، كامنة في معجمها ونحوها ونصوصها. واللغة ـ بلا منازع ـ أبرز السمات الثقافية. وما من حضارة إنسانية إلا صاحبتها نهضة لغوية، وما من صراع بشري، إلا يبطن في جوفه صراعاً لغوياً، حتى قيل إنه يمكن صياغة تاريخ البشرية على أساس من صراعاتها اللغوية. وتشهد حضارة اليوم حركة نشطة لـ “لغونة” العديد من جوانبها: السياسية والمعرفية والاقتصادية والأخلاقية. وجاءت تكنولوجيا المعلومات، والهندسة الوراثية، لتضع اللغة على قمة الهرم المعرفي. وهكذا أصبحت اللغة رابطة العقد للخريطة المعرفية، والركيزة الأساسية لفلسفة العلم، وما من مذهب فلسفي إلا وله شقه اللغوي، وما من فرع من فروع الفن، إلا ويشارك اللغة كثير من سماتها، وما من فرع من فروع العلم، إلا وله صلته باللغة، فما من ظاهرة طبيعية، إلا ولها نصيب من السرد، كما يقول إيليا بريجوجين.

وعلى صعيد السياسة والاقتصاد، أصبحت اللغة من أشد الأسلحة الإيديولوجية ضراوة، وذلك بعد أن فرضت القوى السياسية وقوى المال والتجارة سيطرتها على أجهزة الإعلام الجماهيري، التي أصبح وابل رسائلها وهوائياتها يفعل ما كانت تفعله في الماضي منصات الصواريخ الموجهة. ولا يناظر ضراوة اللغة إلا صمودها، فهي القلعة الحصينة للذود عن الهوية والوحدة القومية، ولا يناظر جبروت اللغة إلا حنوها؛ وكيف لا، واللغة الأم هي شريكة ثدي الأم في إيضاح وعي الصغير، وهي راعية المتعلم، وملهمة المبدع وهادية المتلقي.

وخير ختام لحديثنا عن أهمية اللغة هو ما قاله في حقها شاعر صقلية إجنازيو بوتيتا: إن الشعوب يمكن أن تكبل بالسلاسل، وتسد أفواهها، وتشرد من بيوتها، ويظلون مع ذلك أغنياء. فالشعب يفتقر ويستعبد ما إن يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد، عندئذ يضيع إلى الأبد.

وبرغم كل هذه الأهمية والمحورية، ورفقة الحضارة الإنسانية، ظلت اللغة وربما ستظـل ـ ذلك الشائع المجهول، لغزا حير الفلاسفة عبر القرون، قابعة ـ هناك ـ تحت طبقات اللاوعي، متدثرة بأردية اللبس والغموض. وهذه حالها، كان لا بد أن تتعدد وجهات النظر بشأنها؛ بعض ينظر إليها بصفتها سلوكاً يكتسب، وبعض آخر يؤكد كونها غريزة نولد بها، فريق يراها ظاهراً سطحياً قوامه التجليات المحسوسة والقرائن السافرة، وفريق آخر يرى تحت هذا الظاهر السطحي “بنية عميقة” من علاقات الألفاظ والتراكيب والنصوص. وأخيراً وليس آخراً، هناك من يرى اللغة نظاماً للتواصل، ومن يراها آلة للفكر ومرآة للعقل، ومن يراها لعبة مجتمعية تخفي وراءها صراع القوى الاجتماعية المختلفة.

ومع بزوغ عصر العولمة، تعاظم الدور الذي تلعبه القوى الرمزية، وعلى رأسها اللغة، في صياغة شكل المجتمع الإنساني الحديث، باتت اللغة في أمس الحاجة إلى منظور جديد، منظور يعيد النظر في جميع جوانب المنظومة اللغوية: من أعمق الجذور إلى أدق الفروع.

اللغة العربية ـ بلا شك ـ هي أبرز ملامح ثقافتنا العربية، وهي أكثر اللغات الإنسانية ارتباطاً بالهوية، وهي اللغة الإنسانية الوحيدة التي صمدت 17 قرنا، سجلاً أميناً لحضارة أمتها في ازدهارها وانتكاسها، وشاهداً على إبداع أبنائها، وهم يقودون ركب الحضارة، ودليلاً على تبعيتهم وقد تخلفوا عن هذا الركب.

يقر الجميع أننا نعيش أزمة لغوية طاحنة، تفشت حتى كادت تصبح عاهة ثقافية مستديمة. وكما يقول أمين الخولي: “إن آفات حياتنا في جمهرتها تعود إلى علل لغوية، تصدع الوحدة وتحرم الدقة، وتبدد الجهد، وتعوق تسامي الروح والجسم، والعقل والقلب”(*). وبرغم وضوح أعراض أزمتنا اللغوية، وجسامة آثارها، وكثرة المؤتمرات والندوات واللجـان والتوصيـات التي عقدت بشأنـها، تظل تلك الأزمة مستعصية على الحل.

ويعكس جهد الإصلاح اللغوي في القرن الماضي، وخطابنا اللغوي الراهن، قصور معرفتنا بلغتنا، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، من أهمها:

  • عدم إلمام الكثيرين لدينا بالجوانب العديدة لإشكالية اللغة، حيث يقتصر تناولنا لهذه الإشكالية ـ في أغلب الأحوال ـ على الجوانب التعليمية والمصطلحية. بقول آخر: إننا نتصدى لمعضلة اللغة على مستوى الأطراف الهامشية؛ تجنباً للخوض في المناطق الحساسة التي تتداخل فيها قضايا اللغة العربية مع قضايانا الاجتماعية وأمورنا الدينية، وسياساتنا الوطنية والقومية، وهو ما تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عنه، مع إدراكنا بما ينطوي عليه ذلك، من مخاطر الانغماس في حديث لا يروق للحرس القديم من سدنة اللغة العربية التقليديين، من حيث فحواه ونبرته، بل ربما من حيث الهدف من ورائه أيضاً.
  • قصور العتاد المعرفي لمعظم منظرينا اللغويين، بعد أن أصبحت مسألة اللغة ساحة ساخنة للتداخل الفلسفي والعلمي والتربوي والإعلامي، بل التكنولوجي أيضاً.
  • القطيعة المعرفية التي يقيمها بعضنا، على اختلاف ميولهم الفكرية، مع التوجهات الفلسفية الحديثة، والتي تولي جميعها اهتماماً شديداً بأمور اللغة تنظيراً واستخداماً. وتشتد حدة القطيعة ـ كما هو متوقع ـ مع المدارس الفكرية التي تتخذ موقفاً سلبياً من الدين، كما في ما بعد الحداثة على سبيل المثال. إن عدم إقرارنا بفكر هذه المدارس، لا يجب أن يحرمنا من الإلمام بحصادها النظري الهائل على صعيد اللغة، خاصة في غياب تنظير لغوي عربي حديث.
  • خطأ التشخيص لدائنا اللغوي، فتارة يوجه الاتهام إلى مدارسنا، وتارة إلى مجامعنا، وتارة أخرى إلى إعلامنا، بل وصل الأمر بالبعض إلى إدانة اللغة العربية نفسها؛ تحت زعم أنها تحمل بداخلها كوامن التخلف الفكري والعجز عن تلبية مطالب العصر. ويا له من اتهام جائر لهذه اللغة الإنسانية العظيمة. لقد حان الوقت للتصدي لمثل هذه المفاهيم الخاطئة التي لا أساس لها من الصحة ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا من خلال التحليل الدقيق للعلاقة بين منظومة اللغة ومنظومة المجتمع من منظور ثقافي ـ معلوماتي. في ضوء ما قيل، فإن راهن العربية في أمس الحاجة إلى نظرة أشمل تتجاوز حدود الخطاب اللغوي الراهن، سواء من قبل اللغويين وأهل المعاجم وأئمة المجامع، أو من قبل نقاد الأدب والتربويين والإعلاميين. لقد باتت إشكالية اللغة العربية، من المحورية والشمولية والتعقد، بحيث يستحيل تناولها انطلاقاً من منظور التخصص الضيق، أو النظرة الاجتماعية القاصرة، ومن الخطورة والأهمية، بحيث يصعب إرجاؤها أو تناولها، من دون إستراتيجية واضحة للإصلاح اللغوي الشامل؛ وذلك في إطار خطة قومية أكثر شمولاً، لإعداد مجتمعاتنا العربية لدخول عصر المعلومات.

ثانياً: تعاظم دور اللغة في عصر المعلومات

تلعب اللغة في مجتمع المعلومات دوراً أكثر خطورة عن ذي قبل، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب رئيسية هي:

أ – محورية الثقافة في منظومة المجتمع، ومحورية اللغة في منظومة الثقافة: أشرنا ـ سلفاً ـ إلى أن الثقافة قد أصبحت محور عملية التنمية في مجتمع المعلومات، في حين أكدت اللغة، بفضل المتغير المعلوماتي كونها، محور منظومة الثقافة بلا منازع  في نفس الوقت، ونتيجة لذلك، فقد أصبحت معالجة اللغة آلياً بواسطة الكمبيوتر هي محور تكنولوجيا المعلومات، خاصة وأن اللغة هي المنهل الطبيعي الذي تستقي منه هذه التكنولوجيا أسس ذكائها الاصطناعي، والأفكار المحورية للارتقاء بلغات البرمجة.

وتزداد ـ يوما بعد يوم ـ مساهمة اللغة في تحديد الأداء الكلي للمجتمع الحديث، سواء من داخله، أو بالنسبة إلى خارجه. ويقصد بالداخل هنا أنماط وحصاد نتاجه المعرفي والإبداعي، وكذلك الإنتاجية الشاملة لأفراده ومؤسساته. أما ما نقصده بـ “الخارج” فهو العلاقات التي تربط المجتمع بغيره من المجتمعات، والعوامل التي تحدد ثقله الاستراتيجي في إطار العولمة أو التكتلات الإقليمية. لم يقتصر تعاظم دور اللغة في مجتمع المعلومـات على مجالي التربية والثقافة، وهو الدور الذي لعبته اللغة دوماً على مر العصور، فقد استحدثت اللغة لنفسها أدوارا جديدة بعد أن تداخلت مع التكنولوجيا بصورة كبيرة؛ ليبرز دورها الاقتصادي والسياسي. إن هذه الأدوار          المستجدة، قد باتت من أهم العوامل في رسم الخريطة             الجيو ـ اقتصادية والجيو ـ سياسية.

ب-   الأبعاد اللغوية لظاهرة العولمة: سواء كانت العولمة وفاقاً أم صراعاً، فللغة ـ في كلتا الحالتين ـ شأن خطير. فإن كانت “وفاقاً”، فاللغة ذات شأن جليل في حوار الثقافات؛ حيث من المتوقع أن يتخذ أنصار العولمة من علوم اللغة مرتكزاً أساسياً لعولمة الثقافة، فهؤلاء العولميون لا يقرون بالخصوصيات الثقافية للأمم والشعوب، ويقفون بشدة ضد النسبية الثقافية، والنسبية اللغوية بالتالي. وهم ـ بلا شك ـ سيجدون ضالتهم في التنظير اللغوي الحديث؛ حيث تندرج جميع اللغات الإنسانية في إطار النظرية العامة للغة. لقد استوعبت هذه النظرية القواسم المشتركة بين اللغات، وكذلك مواضع اختلافها وتباينها. علاوة على ذلك، فقد تبنت هذه النظرية النموذج الذهني للغة الذي يفترض كونها غريزة إنسانية، يشترك فيها البشر كافة.

أما إن كانت العولمة “صراعاً “، فدعنا نستهدي هنا بما أورده محمود أمين العالم في صدد دفاعه عن الخصوصية اللغوية، يقول العالم: أخذت العولمة السائدة تفضي بالضرورة إلى سيادة لغة من لغات هذه الدول المهيمنة في العلاقات التجارية والاقتصادية، وما يستتبع ذلك من سيادة ثقافتها وقيمها الخاصة. إن معنى ذلك هو تهميش اللغات والثقافات القومية، واحتواؤها، واستتباعها،  كمدخل لاستتباعها اقتصادياً وثقافياً. يؤكد المشهد اللغوي العالمي صحة ما خلص إليه محمود أمين العالم، لا سيما في مجال الإعلام والمعلومات. وجاءت الإنترنت لتفتح بوابات الفيضان أمام تدفق معلوماتي هادر تطغى عليه اللغة الإنجليزية؛ وهو الأمر الذي أثار الفزع لدى جميع الأمم غير الناطقة بالإنجليزية، وقد انتابها قلق شديد على مصير لغاتها القومية وهي توشك أن تنسحق أمام الإعصار المعلوماتي الإنجليزي الجارف تحت ضغوط اقتصادية وسياسية وثقافية هائلة. إنها الصيغة اللغوية لمصطلح “الإمبريالية الثقافية” الذي شاع استخدامه هذه الأيام، ويفضل الكاتب وصف هذه الظاهرة بـ “الداروينية اللغوية” بعد أن باتت معظم لغات العالم، متقدمه وناميه على حد سواء، مهددة بالانقراض.

ج- المدخل اللغوي للتكتل الإقليمي: صاحب انتشار ظاهرة العولمة تنامي نزعة التكتل الإقليمي، ولم يكن ذلك لمجرد المحافظة على الهوية والخصوصية الثقافية، بل تحركه دوافع اقتصادية وسياسية وأمنية في المقام الأول. وفي هذا الصدد، تشهد أوروبا ـ حالياًـ توجهين متناقضين. أحدهما يقوم على أساس التنوع اللغوي، والآخر يميل إلى الانغلاق في إطار التوحد اللغوي. فبينما تعتبر كتلة الوحدة الأوروبية التنوع اللغوي لدولها (17 لغة) مصدرا لقوتها الاستراتيجية في مواجهة القطب الأمريكي المتشبث بأحاديته اللغوية(*)، تسعى ألمانيا إلى إقامة حلف لغوي ألماني يجمع بينها وبين النمسا وسويسرا. ولمجموعة الدول الإسكندنافية مشاريع مشابهة للتكتل اللغوي. وعلى مستوى ما فوق الإقليمي، يسود الساحة السياسية العالمية ـ حالياًـ نشاط متزايد لإحياء التحالفات اللغوية مثل “الأنجلوفونية” و”الفرانكفونية” و”الإسبانوفونية”، أما على مستـوى الدولة الواحدة، فيعـد موقف اليابان من لغتها اليابانية، نموذجاً للنضال ضد هيمنة القطب اللغوي الأوحد، ونقصد به الولايات المتحدة الأمريكية. فبرغم كل إنجازاتها في مجال صناعة العتاد والاتصالات والإلكترونيات الميكروية، فقد أيقنت اليابان أن مصيرها في عصر المعلومات عموماً، والإنترنت بصفة خاصة، رهن بمصير اللغة اليابانية. وتوالت جهود اليابان لتأمين موقع حصين لها على الخريطة الجيو ـ لغوية، وكانت البداية في مشروع الجيل الخامس الذي أطلقته اليابان في بداية الثمانينيات بمثابة رد فعل تكنولوجي؛ بهدف كسر هيمنة اللغة الإنجليزية. وتوقف مشروع الجيل الخامس لأسباب عديدة، على رأسها ما تعرضت له اليابان بشأنه من ضغوط أمريكية تكنولوجية واقتصادية وسياسية. ولم تتوقف جهود أهل اليابان في الذود عن اليابانية، فراحوا يركزون على تكنولوجيا الترجمة الآلية من جانب، ومن جانب آخر، نراهم  ـ حالياًـ يستغلون تفوقهم التكنولوجي في مجال المعلوماتية؛ من أجل انتزاع الزعامة اللغوية لتكتل الدول غير الناطقة بالإنجليزية.

تشير جميع الدلائل إلى أن التواصل عن بعد، عبر الوسيط الإلكتروني، سيقلب، مفهوم التواصل اللغوي الذي اعتدنا عليه رأساً على عقب، سواء من حيث طبيعة العلاقة بين المرسل والمستقبل، أو من حيث تنوع أشكال التواصل، واتساع نطاقه، وتعدد مطالب فاعليته. ولنأخذ ـ كمثال ـ التواصل “كتابياً”عبر الإنترنت من خلال البريد الإلكتروني أو حلقات “النقاش”. إن هذا التواصل عن بعد، يتم باستخدام ما يمكن أن يطلق عليه أسلوب “الكتابة المحضة” التي تختلف عن شفاهة التواصل وجهاً لوجه، وذلك لسبب بسيط، مؤداه: أن شفاهة الحوار المباشر تزخر بالانفعالات، وتؤازرها ـ عادة ـ ألوان متعددة ومتضافرة من أفعال الكلام speech acts، مثل: حركـات اليد والعينين، وخلجات الشفاه، وتغيير ملامح الوجه وأوضاع البـدن. ولا شك أن أسلوب “الكتابة المحضة” هذا، سيكشف النقاب عن مناطق، بقيت مجهولة ليومنا هذا، في علاقة الشفاهة بالكتابة، وهي العلاقة التي ما زالت محصورة ـ في أغلبها ـ في جوانبها الإملائية، دون التعرض للجوانب الاتصالية الأخرى، سواء الذهنية أو النفسية أو المعلوماتية.

على صعيد آخر، يتفق الجميع على أن التواصل الحالي عبر الإنترنت، والذي يسوده الطور الكتابي، هو مرحلة بدائية وانتقالية تمهد لتواصل أوسع نطاقاً، تواصل “ما بعد الكتابة” الذي يمتزج فيه المكتوب مع المسموع، بالإضافة إلى المرئي من الصور الثابتة والمتحركة، مكونا رسالة اتصالية كثيفة المعلومات. نحن ـ بلا شك ـ إزاء نقلة نوعية، أقل ما يقال عليها، إنها ثورة في أسلوب التواصل الذي اعتاده البشر منذ الأزل. وليس لدينا تصور واضح عن طبيعته وتوجهاته وآثاره النفسية والاجتماعية، واستخداماته الشخصية وغير الشخصية، ولكنه ـ بالحتم ـ سيطرح عديداً من الأسئلة المحورية حول العلاقات بين أنساق الرموز المختلفة: نصوصاً  وأصواتاً وأشكالاً. نذكر من هذه العلاقات على سبيل المثال: العلاقة بين نبر الكلام وتنغيمه، وبين إيقاع الموسيقى ونغميتها، أو تلك الخاصة بمساهمة الصور في فهم النصوص، واستغلال تحليل النصوص لغوياً في فهم الصور ذاتها، حيث ـ عادة ـ ما تتضمن النصوص إيضاحات تساعد على فهم القارئ للصور الواردة بها.

وكما سيتواصل الإنسان مع أخيه الإنسان عبر الوسيط الإلكتروني، سيتحاور الإنسان مباشرة مع الآلة، وهو الحوار الذي يؤكد البعض أنه سيفوق  ـ عما قريب ـ التواصل بين البشر. لن يقتصر الحوار البشري ـ الآلي على إنسان يسأل، أو يسترجع المعلومات، وآلة تبحث عن المعلومات لتظهرها له على الشاشة؛ فهو حوار أعمق من ذلك بكثير، حوار تبدو فيه الآلة أقرب ما تكون إلى “النديم البشري”، آلة تجادل وتناور وتغازل وتتجاوب مع أهواء متحدثها وتكتيكات حواره. وكما هو واضح، فإن هذا “الديالوج الإنس ـ آلي” يتطلب فهما عميقاً للعلاقة بين لغة الإنسان الطبيعية ولغة الآلة الاصطناعية؛ وهو الأمر الذي سيقتضي ـ بدوره ـ تمعناً دقيقاً في كيفية اكتساب الآلة المهارات اللغوية من جانب، وكيفية اكتساب الإنسان لغته الأم من جانب آخر. والأهم من ذلك ـ في رأينا ـ هو دراسة الأبعاد النفسية والاجتماعية لهذا التواصل الذي يتناصفه الإنسان مع الآلة، لقد أثرت تكنولوجيا الطباعة على الشفاهة والكتابة، وأثر التليفزيون على لغة الصحافة والحوار، ولا بد سيكون لهذا التواصل “الإنسالي” ـ إن جاز لنا صك المصطلح بأسلوب المزج ـ نتائجه التي يصعب التكهن بها. يفسر ذلك سر اهتمام مهندسي اللغة حالياً، بفهم آليات المحادثة وتحليل بنيتها من أجل الوصول إلى ما أطلق عليه “هندسة الحوار conversational engineering”.

وختاماً لحديثنا عن التواصل اللغوي في عصر المعلومات، دعنا نتساءل مع من يتساءلون: هل سيؤدي التواصل نصف البشري هذا إلى ضمور التواصل بين البشر، أم سيعيد لهم تشوقهم إلى ود الحوار مع نظرائهم من بني البشر؟!!.

لقد أثبتت العربية جدارتها على مر العصور، وحقها في أن تصبح لغة عالمية، وشهد تاريخ الفتح الإسلامي على سرعة انتشارها واندماجها في بيئات لغوية متباينة. لقد نجحت العربية في عصور الازدهار أن تكون أداة فعالة لنقل المعرفة، حتى قال القائل: عجبت لمن يدعي العلم، ويجهل العربية.

ومن منظور فقه اللغة، تتسم اللغة العربية بالعديد من الخصائص الجوهرية التي تؤكد عالميتها، ومن أهمها، التزامها بالقاعدة الذهبية فيما يخص التوسط والتوازن اللغوي. فاللغة العربية تجمع بين كثير من خصائص اللغات الأخرى، على مستوى جميع فروعها اللغوية: كتابة وأصواتاً وصرفاً ونحواً ومعجماً(*). وتتسم منظومة اللغة العربية بتوازن دقيق، وتآخ محسوب بين فروع اللغة المختلفة.

ومن منظور معالجة اللغات الإنسانية آلياً  بواسطة الكمبيوتر، أثبتت العربية ـ أيضاً ـ جدارتها كلغة عالمية، فبفضل توسطها اللغوي، الذي أشرنا إليه أعلاه، يسهل تطويع النماذج البرمجية المصممة للغة العربية لتلبية مطالب اللغات الأخرى وعلى رأسها الإنجليزية(*). بقول آخر، فإن العربية، لغوياً وحاسوبياً، يمكن النظر إليها ـ بلغة الرياضيات الحديثة ـ على أنها فئة عليا superset تندرج في إطارها كثير من اللغات الأخرى، كحالة خاصة من هذه الفئة العليا.

في ظل العولمة وثورة المعلومات، تتعرض العربية لحركة تهميش نشطة، بفعل الضغوط الهائلة الناجمة عن طغيان اللغـة الإنجليزية على الصعيد السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والمعلوماتي. وتشارك العربية ـ في ذلك ـ معظم لغات العالم، إلا أنها تواجه تحديات إضافية نتيجة للحملة الضارية التي تشنها العولمة ضد الإسلام، وبالتالي ضد العربية، نظراً إلى شدة الارتباط بينهما.

د – العربية وتواصل عصر المعلومات: أغفلت معظم دراساتنا اللغوية جوانب استخدام اللغـة وظيفيـاً، بمعنى استخدامها في مسار الحياة الواقعية، استخدامها في إبداء الآراء والدفاع عنها، وفي عمليات التبادل والتفاوض والتراسل والتهاتف، وهلم جرا. يتضح ذلك، بصورة سافرة، في ضعف مهارات الاتصال لدى الغالبية منا: كتابة وقراءة وشفاهة واستماعاً. وليس هذا  ـ حتماً ـ نتيجة قصور في العربية؛ فهي تمتلك العديد من الخصائص والأدوات التي تؤهلها لتكون لغة حوار فعالة. إننا مازلنا أسرى اللغة المكتوبة غير ملمين بالعلاقـات اللغوية والتداولية والمقاميـة التي تربط بين أدائنـا الشفهي وأدائنا الكتابي، ويتجلى ذلك ـ بوضوح ـ في أساليب حوارنا وتفاوضنا.

* من مقدمة كتابه “مشكلات حياتنا اللغوية”.

* تجدر الإشارة إلى أن هناك قلة قليلة داخل الاتحاد الأوروبي، ترى في التنوع اللغوي مصدر ضعف لا قوة.

* فاللغة العربية ـ على سبيل المثال ـ تجمع بين الجمل الاسمية والفعلية، وتكتفي بمطابقة جنس الفعل مع جنس الفاعل (ذهب فلان وذهبت فلانه). وهو ما لا تلتزم به الإنجليزية، في حين تتطرف بعض اللغات في مطابقة الفعل مع الفاعل والمفعول معاً، وتصل العربية المعرفة، ولا تصل النكرة (الرجل الذي كتب..، ورجل كتب..، في حين تصل الإنجليزية النكرة والمعرفة                         (the man who wrote.., a man who wrote..) ولا تصل الصينية أياً منهما.

* أثبتت بحوث الكاتب بما لا يدع مجالا للشك إمكان استخدام نظم الإعراب والصرف الآلية المصممة للغة العربية، في مجال اللغة الإنجليزية.

0 Reviews

Write a Review

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى